تورينو/ميلانو- تتواصل الفعاليات التضامنية مع الشعب الفلسطيني في إيطاليا، بشكل إبداعي ولافت، للرفع من الوعي الجماعي والضغط على حكومة اليمين الإيطالية، لوضع حد لحرب التجويع التي يقودها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
إيطاليون متعودون على الأسفار، لم تمنعهم عطلهم السنوية، من برمجة جزء من وقتهم لتنظيم وحضور أنشطة تضامنية مع المجوّعين في غزة، بل أصبغ كثيرون منهم على إجازاتهم الصيفية طابع الالتزام بالقضية الفلسطينية في أنشطتهم، والتعبئة لها، كحال طلبة كثر بمدينة تورينو.
تقول فيتّوريا، طالبة عشرينية، من داخل خيمة تشبه غرفة عمليات بساحة “بياتسا كاستيلّو” في مدينة تورينو، “نحاول جعل الناس يشعرون بالألم والمعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، فحين يتعرض الناس باستمرار لما يشبه قصفاً معلوماتياً، يصبح ضروريا تحرك أصحاب الضمائر الحية لتصحيح المعلومات”.
مخيم اعتصام وتوعية
فيتّوريا واحدة من الشبات القيادية، قررت رفقة مجموعة من الطلبة، إقامة مخيم اعتصامي تضامني مستمر منذ بداية الصيف مع غزة، بهدف توعية وإخبار المواطنين بالمعلومات بحقيقة الوضع هناك، انطلاقا من وسط تورينو، لرمزية المكان الذي وحّد الإيطاليين أواسط القرن الـ19، أملا في توحد الرأي العام الإيطالي على كلمة “رجل واحد: يجب وقف تجويع الفلسطينيين بغزة”، تضيف فيتّوريا.
ويثير الشباب المعتصمون انتباه المارة بتنظيم أنشطة توعوية وإخبارية، عبر مكتبة فلسطين المفتوحة لعشاق المطالعة بساحة كاستيلّو، إضافة لنقاشات ثنائية وجماعية تعرف بالقضية الفلسطينية، وورشات فنية مفتوحة في الهواء الطلق.

ويخيط المعتصمون العلم الفلسطيني بأيديهم، فيتحلَّق حولهم الناس، لتتدفق الأسئلة، فتروي فيتّوريا وأصدقاؤها ظمأ المواطنين بمعلومات معينة وتاريخية عن فلسطين نهلوها من الكتب، أو قناة الجزيرة الإنجليزية.
مريم، إيطالية مغربية، ذات البشرة السمراء، والشعر المجعد، ككثير من الشباب الذين يمرّون يوميًا من ساحة كاستيلّو، استوقفتها الخيام ذات يوم وحلقات الشباب وهم يتداولون الحديث عن القضية الفلسطينية.
وتقول العشرينية: “توقفت بدافع الفضول لأستمع لما كانوا يقولونه، ولأفهم ماذا يحدث. وأثناء وقوفي هناك، شدني الخطاب، فتطوعت وساعدت بإلصاق بعض الأوراق على الأرض، ليكتب فيها الناس رسائل موجهة للفلسطينيين وللحكومة الإيطالية، ثم وجدت نفسي، يوما بعد آخر دون أن أدرك، أمضي معهم كامل فترة ما بعد الظهر”.

رغم المضايقات
أما كاطلين، وهو شاب إيطالي، فقد فتح له المخيم فرصة التقرب مما يحدث في غزة فأصبح متطوعا، ويقول: “بدأت أدعم هذه القضية، لأنني أدركت أن هناك فعلا أطفالا وأشخاصا أقل حظا بكثير ممن نراهم حولنا”.
وأضاف “أعتقد أننا نُساهم بتوعية الناس، كثير منهم يتوقف ليتحدث معنا، أو يقرأ المعلومات ويشاهد الصور، وهذا يخلق نوعًا من الوعي، ومن ذلك بدأ الناس فعلا بتقديم الدعم والمساعدة للشعب الغزّي”.

وكذلك تُوراي، وهو طالب حديث العهد بإيطاليا، قادم من غانا ومشهور بين المعتصمين بقفشاته وحضوره اليومي، يقول -بابتسامة الممتن- للجزيرة نت، “الطلبة هنا معبؤون لخدمة القضية الفلسطينية، بتوفير المعلومات اللازمة عمّا يحدث في غزة، رغم المضايقات والضغوطات من بعضهم، إلا أنهم لا يزالون صامدين، اليوم هو اليوم الخامس على التوالي، إنه أمر رائع”.
سيرينا، شابة إيطالية أخرى، من المعتصمات اللواتي التقتهن الجزيرة نت، تؤكد أن الوقت الذي تقضيه بساحة كاستيلّو، له أهمية كبيرة، لأن “من يريد أن يتثقف أو يطّلع على ما يجري، غالباً ما يكتفي بما يصله من معلومات بشكل عابر عبر إنستغرام وغيره، دون أن يتعمق في البحث أو يعود إلى المصادر الحقيقية، وهكذا يخاطرون بالوقوع في نوع من التخدير الاجتماعي، ودورنا هنا: تمحيص وتناول المعلومات ذات المصداقية”.

برنامج أغسطس
ويمتد دعم المجتمع الإيطالي، أفرادا وجماعات، لوقف سياسة تجويع الفلسطينيين في غزة، على كامل شبه الجزيرة الإيطالية، ومن أبرز ما يُرتقب تنظيمه، لقاءٌ بعنوان “الصهيونية في بيتنا” الاثنين في مدينة ريجو إميليا، ويناقش الربط بين الاحتلال الإسرائيلي والتعاونيات المحلية بإيطاليا، بمشاركة صحفيين وناشطين في حركة المقاطعة “بي دي إس”.
وبعده، وفي يوم 8 أغسطس/آب الجاري، تحتضن مدينة ألغيرو في سردينيا تظاهرة شعارها “ما بعد الصمت”، تتخللها حفلة فنية لدعم فلسطين، ومداخلات قانونية.

وفي 20 أغسطس/آب، سيُعقد لقاء هام في معبد فالديزي بمدينة توري بيليتشي بعنوان “الزمن هو الآن.. نظرات على فلسطين”، بمشاركة شخصيات بارزة كالنائبة السابقة بالبرلمان الأوروبي ورئيسة جمعية أسّوباتشي فلسطين، كـلويزا مورغانتيني، والبروفيسور من كلية اللاهوت في روما، إيريك نوفكي، وستُفتتح الأمسية بحفل موسيقي لجوقة أصدقاء جو للغوسبيل والسبيرتشوالز.
وتحتضن روما في 6 أغسطس/آب وقفة للسيدات بعنوان نسويات من أجل غزة، بينما تنظَّم في تورينو يوم 10 سبتمبر/أيلول تظاهرة في ساحة عمومية من طرف مجموعة فلسطين حرة تورينو، وتُختتم الفعاليات في 15 الشهر القادم بـمعرض صور ومداخلات في مدينة كالياري تنظمه جمعيات طلابية وثقافية.
ويستمر الزخم مع مجموعة من الأمسية السينمائية، في الهواء الطلق، الخاصة بعرض أفلام عن قطاع غزة تليها نقاشات، منها تلك التي ستنظم في بولونيا، الاثنين، تحت إشراف يا باستا بولونيا، ثم وقفات ومسيرات احتجاجية بعدة مدن إيطالية كبرى، مثل روما وميلانو وتورينو، تنظمها جمعيات وتنسيقيات من المجتمع المدني المحلي.
انفصال
وهذه المبادرات من طرف المجتمع المدني الإيطالي لوقف تجويع غزة، تستدعي الفهم والتحليل بالنظر إلى ارتباط الإيطاليين بتراث المقاومة والدفاع عن كرامتهم حينما حاصرتهم الفاشية، حتى أصبحت أغنية “بلا تشاو”، الإيطالية مرادفا للمقاومة.
وفي السياق، يوضح الأكاديمي بجامعة كافوسكاري بالبندقية، فرانشيسكوا فاكيانو، للجزيرة نت، “كما تعلم، إيطاليا بلد يتمتع بمجتمع مدني قوي، ونشط، ومنظم، لكنه بعيد جدًا عن البرلمان. فالمجتمع المدني الإيطالي، منذ سنوات، لا يجد تمثيلًا حقيقيًا داخل البرلمان بسبب آليات سياسية معقدة، هناك انفصال واضح بين السياسة الرسمية وما يمارسه المواطنون على الأرض عبر التنظيمات القاعدية”.
ويؤكد فاكيانو -وهو مختص في أنثربولوجيا (دراسة علم الإنسان) الكرامة والحركات الاحتجاجية، بأن “رد فعل المجتمع المدني الإيطالي تجاه ما يحدث في فلسطين ليس جديدًا، بل هو استمرارية لدعم إنساني طويل الأمد، حتى وإن هُمشت أصوات الفاعلين الجمعويين، خاصة في العامين الأخيرين، فإنه لم تختفِ قط، حتى قبل 7 أكتوبر”.

وردا على سؤال عن مدى تأثير الفعاليات التضامنية مع فلسطين على خيارات حكومة جورجا ميلوني؟ أجاب فاكيانو بالنفي، لأن “الحكومة والبرلمان بعيدان عن هذا المجتمع المدني، فهما منتخبان من أغلبية من الإيطاليين: الذين في الواقع، لا ينتمون لهذا المجتمع المدني، الذي هو امتداد لليسار، غير أنه ليس له تمثيل برلماني”.
وعن مدى أثر الحركات الاحتجاجية المتميز بتوجيه الانتباه للقضية الفلسطينية، أكد الأكاديمي فاكيانو، أنه لا ينتظر شيئًا من حكومة ميلوني، ويقول: “ما أنتظره، أن يصبح صوت المجتمع المدني أعلى وأقوى، وأن يُسمع أكثر، بالرغم من وسائل الإعلام المُسيطر عليها من رأس المال والحكومة”.

الفطرة والإنسانية
من جهته، أرجع الناشط المدني محمد شاهين، أحد أبرز المنظمين للوقفات والمسيرات الداعمة لغزة بإيطاليا، التميز والإبداع المستمر للفعاليات التضامنية مع فلسطين بإيطاليا، إلى “الفطرة السليمة التي ترى الظلم، وتتحرك لنصرة المظلوم، لأنها تدرك أن السكوت عن الظالم يجعله يتمادى ويؤذي غيره، لذا فإن وقوف الإيطاليين المتظاهرين بوجه الظلم هو دفاع عن المظلومين وعن أنفسهم أيضًا”.
كما يعتبر شاهين التظاهرات إنسانية خالصة، مستشهدا في حديثه للجزيرة نت، بأحد شعاراتها المميزة: “ريستيامو أوماني” ويعني “فلنبق إنسانيين”.