“أسرار خزنة” لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولوجيا وتتزين بفضيلة الصيام عن المثال | ثقافة

ربما تكون المجموعة القصصية “أسرار خزنة” للقاصة هدى الأحمد، الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، من أوائل الأعمال الأدبية التي تتمحور حول حكايات امرأة من باديتنا، حكايات ارتكزت على قيم التضحية والوفاء، حيث تتجلى العاطفة في أجمل صورها. وترصد المجموعة في الوقت ذاته تحولات المجتمع البدوي والصراع بين الأصالة والعصرنة، وتأثير التكنولوجيا، أو بالأحرى “صدمتها”، في ثقافة بدوية ضاربة بجذورها في التاريخ، وهي تحاول التكيف مع كل ما هو جديد.

تضم المجموعة 14 قصة امتازت بالبساطة وسلاسة تطور الأحداث والشخصيات، وصيغت بلغة محكية ذات لكنة بدوية في الغالب. ورغم أنها استندت إلى مخزون تراثي لحقبة الخمسينيات على وجه التقريب، فإنها أحيت مجددا مفاهيم العفة والنقاء والشهامة، وفضيلة تخزين الأسرار، وفق ما يشي به العنوان الذي جاء موفقا ومقصودا، حفاظا على القيم الاجتماعية والإنسانية، وتحصينا للمجتمع البدوي من الفتن، أو ما سمّاه الناقد رائد الحواري “الصيام” عن كشف مثالب الناس.

وتقع المجموعة في 95 صفحة من القطع الصغير، وتقوم على تعدد الشخصيات رغم أن بطلتها فتاة صغيرة اسمها “خزنة”، وهو اسم دارج في المجتمع البدوي. إذ استطاعت هذه الفتاة، التي تتزين بنقاء الصحراء وأخلاقيات البداوة، أن تكسب قلوب من حولها بأخلاقها وتربيتها وقدرتها على كتمان أسرار عشيرتها والمحيطين بها، فالبدوي، وفقا لتقاليده وعاداته الأصيلة، يحفظ الأسرار ولا يتلفظ بها أو يكشفها أيّا كانت الظروف.

ويحمل العنوان “أسرار خزنة”، رغم بساطته، الكثير من المعاني الإنسانية النبيلة، ففي ذاكرتنا وبيوتنا “خزنة” نحفظ فيها أسرارنا التي تبقى معنا حتى نستضاف في مساحة لا تتعدى مترا بمتر.

وتحت عنوان “تلويحة”، يرى الدكتور جروان المعاني أن “أسرار خزنة” هي حكاية فتاة من البادية، ذكاؤها فطري، وهي وحيدة والديها، تعيش دلالا لكنه ليس كدلال بنات المدينة، فهي ترعى أغنام والديها وتساعد والدتها في أعمال البيت وإنتاج مشتقات الحليب. ويقول في تقديمه للمجموعة القصصية إن “خزنة” هي قصة نساء البادية، حيث العادات والتقاليد وثقافة المجتمع السائدة. وتظهر في هذه المجموعة متمردة، لكنها في واقع الحال فتاة تحمل شقاوة الطفولة حتى تصدمها الحياة بوفاة والدتها، ملاذها ومكمن طمأنينتها، وتكبر لتكبر معها همومها.

وحسب رأيه، فبين إرادة الكاتبة وإرادة “خزنة”، بطلة المجموعة، تجد هدى الأحمد نفسها محاصرة بما تحمله من موروثات تقيد المرأة البدوية التي تكاد تتخلص منها بحدها الأدنى لتعيش حريتها. فالمجموعة تُعد آخر متنفس لفتاة عاشت ما بين البداوة والحضر، وكأن الكاتبة كتبت نفسها.

وفي حوارها مع الجزيرة نت، تتحدث هدى الأحمد عن مجموعتها القصصية بتفصيل أكبر، وتوضح أن “أسرار خزنة” تتناول بيئة بدوية، قائلة: “لا أرى قربا بين شخصيتها التي تشكلت لتكون قوية بحكم الظروف لا متمردة، وشخصيتي، وإن التقينا في المعاناة. لذلك، أثناء كتابة المجموعة، عزفت على نوتة صحراوية بما فيها من الوحشة والسلام، والخوف والأمان”.

وتؤكد أن الكتابة واحدة من أهم وسائل التغيير، مضيفة أنها تدعو للتغيير وليس للانقلاب على تاريخنا البدوي، وأن شخصية “خزنة” خيالية لكن الأحداث واقعية. وإلى تفاصيل الحوار:

هدى الاحمد
هدى الأحمد تكشف من خلال “أسرار خزنة” عن الصراع بين الأصالة والحداثة في البادية وتأثير التكنولوجيا على مجتمع له جذور ثقافية عميقة (الجزيرة)
  • شخصيات القاص أو المضمون ليست منفصلة عن ذات الكاتب، ما مدى قرب شخصية “خزنة” منكِ؟

يختار القاص الشخصيات بناء على نوع القصة وقدرته على توظيف الخيال، وبالتالي يشكل الأحداث، ويكون مدى قربها أو بعدها عن شخصية الكاتب مرتبطا بقرب الشخصية من البيئة التي يعيشها، فيرسم معالمها بما يتماشى مع الأحداث.

هنا، في مجموعة “أسرار خزنة”، نتحدث عن بيئة بدوية لها معطياتها، يتنقل فيها الناس بشكل جماعي طلبا للماء والطعام لهم ولمواشيهم. كان ذلك حتى وقت قريب، ولكن تغيرت الأحوال واستقر الناس.

وأنا ككاتبة لمجموعة “خزنة” من بنات الريف، فلا أرى قربا حقيقيّا بين شخصية “خزنة” وشخصيتي، وإن التقينا في بعض أوجه المعاناة، فالنساء في الوطن العربي يلتقين في عدد من أشكال المعاناة، خاصة فيما يتعلق بحرية الاختيار والقرار، وهنا لا أتحدث بالمُطلق.

  • يقال إن الأدب يشبه النوتة الموسيقية، فعلى أي نوتة عزفتِ أثناء كتابة “أسرار خزنة”؟ وما الطقوس التي تمارسينها أثناء اختيار وحركة شخصياتك؟

الكتابة بطقوسها تختلف من كاتب لآخر، فهناك من يفضل الكتابة صباحا أو ليلا، وآخر يبدع وسط الضجيج، وبعضهم يطلب الهدوء الكامل.

أنا ككاتبة أحتاج للانفراد وإغلاق هاتفي، ولا أجهز أمورا مادية للكتابة كالقهوة أو الموسيقى، فقط أحتاج للانفراد بشخصيات قصصي لأحركهم بحسب مسارات القصة، فتتداعى الكلمات لأرتبها بشكل يتلاءم ومجريات الأحداث. وفي مجموعة “خزنة”، عزفت دوما على نوتة صحراوية فيها من الوحشة والسلام، والخوف والأمان.

  • شخصية “خزنة” حقيقية أم متخيلة؟ يبدو أنها متمردة على تقاليد البداوة، هل من توضيح؟

بالتأكيد هي من صنع الخيال، وإن كانت الأحداث واقعية جدّا. “خزنة” لا تفضح أسرار البادية، بل تصور أمورا تتكرر في بوادينا، غير أن لخزنة خصوصيتين: الأولى أنها فقدت أمها التي تحبها كثيرا ودللتها في عمر صغير، والثانية أنها ابتعدت عن ديرتها وأبيها.

كل هذا جعلها تصرخ “بلا” كلما تعرضت للقهر، فكان لا بد لها أن تتمرد في لحظة ما، فترفض الزواج من ابن خالتها، وتقطع مسافة طويلة وتتعرض لحوادث في طريقها وهي تسير وحيدة.

كان لا بد لها أن تكون قوية جسديّا ونفسيّا، فظهرت كمتمردة، والواقع أن شخصيتها تشكلت لتكون قوية لا متمردة. وكما تعلم، هناك فرق بين التمرد على الأعراف والتقاليد وبين التحلي بالقوة، لذا أقول لم تكن متمردة، بل فرضت عليها الظروف أن تكون قوية.

  • ذكرتِ لي أنكِ ناضلتِ وجاهدتِ لإخراج المجموعة إلى النور، ألقي أضواء على هذه التجربة؟

أخذت مني كتابة المجموعة ما يزيد على 5 أشهر، وحتى ترى النور مكثت في أدراج وزارة الثقافة ما يزيد على السنة، لأن هناك من رأى أن المجموعة تراثية. وكما تعلم فإن طباعة الكتب مُكلِّفة، فكان لزاما عليّ أن أنتظر عاما آخر.

وفي النهاية، تكلل صبري بالنجاح، حيث خضعت المجموعة للتحكيم وتمت الموافقة على نشرها بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، مشكورة، مع أن الدعم بالكاد غطى تكاليف الطباعة. فكانت تجربة مرهقة نفسيّا، ولكن بالصبر والمثابرة خرجت هذه التجربة القصصية المغايرة، ولله الحمد، إلى النور.

  • الكتابة رحلة جمال وأداة تغيير، ماذا عن تجربتك القصصية؟ هل نلمس من مجموعتك دعوة لثورة بيضاء في باديتنا الأردنية؟

لا شك في أن الكتابة واحدة من أهم وسائل التغيير في المجتمعات، خاصة تلك التي تتناول التراث والعادات والتقاليد. فكما تعلمون، إن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على العالم وانتشار تكنولوجيا الاتصال جعلت تأثير المثقف يقل، إلا إذا وظّفنا هذه التكنولوجيا بشكلها السليم.

ودور النشر تستغل جهد الكاتب لتحقق مكسبا ماديّا، وعليه يكون التأثير قليلا. وما أراه أن الثورات عموما جلبت لبلادنا الويلات، لذا أنا لا أدعو لثورة بيضاء أو حمراء، ولكنني أسعى أن تصل أفكاري و”خزنة” إلى طلبة المدارس والجامعات ليطلعوا على جانب من جوانب حياة المرأة في البادية، ويأخذوا منها العبرة، فيصبح الشباب أكثر وعيا وانفتاحا على أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم، وعلى المرأة عمومًا.

نعم، أدعو للتغيير، ولكن ليس للانقلاب الكامل على تاريخنا البدوي، ففيه من الجمال الكثير، فعفة ابنة البادية أهم بكثير من انتشارها على “تيك توك”، ودورها في استقبال ضيوف زوجها وأبيها وهم غائبون قيمة تعطي للمرأة مكانتها، وهي أهم من إظهار مفاتنها على وسائل التواصل. هي فقط دعوة للتغيير والانفتاح المضبوط.

  • رصدتِ في المجموعة استقبال أهل البادية للتكنولوجيا وطرق التكيف معها.. ما خلاصة عملية الرصد والتكيف؟

حتى منتصف القرن الـ20، كانت حياة أهل البادية غارقة في البساطة، فكان الجمل والدواب وسيلة التنقل الوحيدة، ثم دخلت السيارة رويدا رويدا فازداد رتم الحياة سرعة. لذا، في المجموعة، تحدثت عن أعجوبة السيارة حين جاءت زوجة مسؤول لزيارة البادية التي تسكنها “خزنة”، ورصدت الخوف واستهجان “الجني الصغير” (المذياع)، وكيف وصل الأمر بأم “خزنة” للشك بأن زوجها يحب المذيعة، فحطمته بحثا عنها ولمنعه من سماع صوتها.

ونعلم جيدا أن التكنولوجيا تسارع دخولها في بلادنا بعد منتصف السبعينيات من القرن الـ20، وبداخلي فكرة لمجموعة قصصية تتناول الفترة الانتقالية بين التنقل والاستقرار وما عانته المرأة البدوية في تلك الفترة.

  • الثقافة البدوية لها تقاليدها وعاداتها وأصولها وجذورها الموغلة في التاريخ العربي، هل يمكن القول بوجود صدمة من التكنولوجيا؟

كلنا يعلم أن للتكنولوجيا وجهها الإيجابي والمهم، غير أن سوء استخدامها أظهر بشاعتها. لذلك، نعم، حدثت فجوة وهوة حضارية لم نستطع التغلب على تأثيرها حتى الآن. فقد تخلينا عن كثير من مظاهر حياتنا وأصولها، فصار التواصل بين الأهل ينجزه الهاتف بدلا من لقاءات الأهل، وكثير من القيم والأصول أظهرتها التكنولوجيا الحديثة على أنها عبء على الحضارة، فتركنا لباسنا التقليدي، وأغانينا التي تتحدث عن بطولات أجدادنا، وغيرها الكثير من الأمور. صار “المِهباش” يُستعمل للزينة، وما عاد مظهرا من مظاهر الشيخة والكرم. وبعد هذه الصدمة والفجوة الحضارية، بدأنا ننخرط في الحداثة حتى نكاد ننقطع عن تاريخنا وبداوتنا.

stock vector camel caravan going through the desert on beautiful sunset background graphic illustration
من قصص المجموعة، قصة “البئر الغربي” والتي يستدعي مضمونها إلى ذاكرتنا قصة أوردها ابن بطوطة في رحلته، وهي قصة أهل جزيرة “ذيبة المهل” (المالديف حاليا) (شترستوك)
  • وأخيرا، هل هناك مشروع أدبي مستقبلي؟

“امرأة قادمة من البعيد”، هذا هو عنوان مجموعتي القصصية الجديدة التي سترى النور قريبا بإذن الله. ومن العنوان، نرى أنها تتحدث عن امرأة جاءت بأحلامها المؤجلة وعن علاقتها بالرجل، ولكن تحت عناوين مختلفة كالحب والشوق والرغبة في السفر وغيرها من الأمور. مجموعة تتناول حياة النساء بشكل أكثر وضوحا، دون المساس بكينونتها وأنوثتها.

قاصّة تحفر في تراث البادية

وعلى صعيد متصل، ترى الدكتورة إنعام زعل القيسي أن هدى الأحمد قاصّة أردنية تحفر في تراث البادية الأصيل، وتكشف لنا عن دفائن الصحراء الثمينة وخفايا رمالها الذهبية في “أسرار خزنة”، لتحيل المقروء الثقافي عن واقع عشناه وعاشه أهلنا إلى واقع جميل نعيشه في مخيلتنا. فـ”خزنة” ومن حولها كانوا يستمتعون بـ”الجني الصغير” (الساحر المسموع)، كما كنتُ ومن حولي نستمتع بـ”الساحر المرئي” في السبعينيات. إنها تعزف على وتر بعث الماضي وتراثه الأصيل، فيشدنا الحنين والشوق لحياة جميلة ساحرة مضت.

وأوضحت في حديث للجزيرة نت أن “خزنة طفلة شقيّة وجميلة بجديلتين سوداوين وعينين تتقدان ذكاء، ترعى الغنم، وفيّة للحيوان والإنسان”. وأضافت أن “الفتاة السمراء الممشوقة القوام ذات الابتسامة الرقيقة” تصر على اللحاق ببنات البادية من أترابها وتتعلم كيف تحلب الأغنام لتجد عريسا يطلب يدها، وهي تحمل في صدرها أسرارا كثيرة. فجاء اسمها مقاربا لحالها ومفتاحا لفهم مضامين القصص؛ فمثلا: “خزنة” السرّ في تحطيم الراديو وغيرة والدتها من المرأة التي تتحدث داخله، و”خزنة” سر “الحنة الضائعة” ووقوع العروس مغشيّا عليها. لقد كانت “خزنة” بمثابة الصندوق المعدني الذي يستخدم لحفظ الأشياء الثمينة.

وأشارت الناقدة الأكاديمية القيسي إلى غنى الموروث الثقافي الذي تتميز به بعض قصص المجموعة، ومنها قصة “البئر الغربي” التي يستدعي مضمونها إلى ذاكرتنا قصة أوردها ابن بطوطة في رحلته، وهي قصة أهل جزيرة “ذيبة المهل” (المالديف حاليّا) الذين كان يظهر لهم شهريّا عفريت من الجن يأتي من جهة البحر، ويطلب منهم تقديم قربان له من أجمل فتياتهم ويختفي بعد أن يحوزه. وعلى الرغم من اختلاف القرابين المقدمة بين أهل البادية في “البئر الغربي” وأهل جزيرة ذيبة المهل، فإن الجهل كان السمة المسيطرة على الناس.

وترى القيسي أن هدى الأحمد نجحت في “أسرار خزنة” بتقديم مشاهد من حياة المرأة البدوية وأحلامها وأمنياتها، وبيان دورها في بيئتها الاجتماعية والمشكلات التي تتعرض لها بمهارة فنية لافتة، من خلال التبئير على شخصية “خزنة” شكلا ومضمونا. كما نجحت في عرض عادات البدو وتقاليدهم ومفردات لهجتهم وعباراتهم الأصيلة، وهو أمر يعكس تشبُّع القاصة بالثقافة البدوية الأصيلة.

عن شريف الشرايبي

Check Also

بين التكتيك والاستراتيجية… أين تقف إسرائيل بعد الضربات التي تلقتها إيران؟

بقلم:&nbspيورونيوز نشرت في 23/06/2025 – 11:45 GMT+2 اعلان منذ اللحظة الأولى لانطلاق الهجوم الإسرائيلي المباغت …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *