لم يكن السجن في العصور الوسطى عقابا في حد ذاته لكنه كان مكانا يوضع فيه المدان لحين توقيع العقوبة النهائية عليه التي كانت تتراوح بين الإعدام والعبودية، لكن فلسفة السجون تغيرت في ظل الدولة الحديثة.
وحسب ما قاله أستاذ علم الاجتماع إسماعيل الناشف لبرنامج “العمارة والإنسان” الذي تناول “عمارة السجون”، فإن مفهوم العقاب قديما كان مشهدا يراه الجميع من خلال إحضار المجرم إلى ساحة مركزية وتعذيبه جسديا أمام الجميع.
لكن هذه الفكرة تغيرت مع سيطرة النظام الرأسمالي، الذي يحاول -كما يقول الناشف- إعداد أشخاص يمكنهم الانخراط في سوق العمل بشكل منضبط، واعتمد بشكل أساسي على تطوير ثلاث منظومات أساسية هي: العائلة، والعمل، والسجن.
وقد تحدث للبرنامج عن فكرة السجن التي قال إنها نبعت من رغبة الدولة أو النظام في تعزيز فكرة الرقابة من خلال السيطرة.
رقابة الجدران
لذلك، فقد تطور تصميم السجون بهدف إلحاق أكبر قدر ممكن من العقوبة بنفسية المجرم من خلال الجدران، كما قال المفكر والمصلح الاجتماعي الإنجليزي جيرمي بنثام (1748-1832).
اللافت أن هذا المصلح الاجتماعي بنثام كان صاحب واحدة من أكثر أفكار دهاء في فلسفة السجون، حيث صمم سجن بانوبتيكون الذي تحوّل لاحقا إلى متحف.
ففي سجن بانوبتيكون الذي صمم بشكل دائري، كانت غرف المساجين كلها تطل على ساحة مركزية، وضع بنثام وسطها برج مراقبة مضاءً طيلة الوقت بحيث لا يتمكن السجناء من رؤية الحارس الموجود بداخله.
وبهذه الطريقة، تحولت الرقابة إلى فعل ذاتي يقوم به المسجون نفسه لأن خشيته من الحارس -غير الموجود أساسا في برج المراقبة- منعته من التفكير في القيام بأي عمل مخالف.
وبحسب الناشف، فقد كان البناء هو البطل في هذا السجن الذي صممه بنثام، لأن برج المراقبة كان هو الشيء الذي تم إخضاع السجناء به، وجعلهم يراقبون أنفسهم بأنفسهم.
تغيّر معنى العقاب
ويعتبر سجن بنثام هذا دليلا على التحوّل من فكرة التعذيب العلني للمجرم الذي كان سائدا في العصور الوسطى، إلى فكرة العزل وتنفيذ العقاب بعيدا عن أعين الجماهير والتي اعتمدتها الدولة الحديثة، كما يقول الناشف.
وبناء على ذلك، فقد تغير شكل الرقابة داخل السجون عما كان عليه في السابق، وهو ما طبقته الدولة في مختلف المؤسسات بما فيها المدارس التي يتم تصميمها على نحو يعزز فكرة المراقبة لدى الطلاب.
فمع عجز الدول عن مراقبة كافة مواطنيها وحاجتها الماسة لمراقبة الناس من أجل إخضاعهم، كان لزاما عليها أن تجد فلسفة تتجاوز من خلال هذه العقبة، وكانت فكرة الإيهام التي ابتكرها بنثام في سجنه هي الحل السحري بالنسبة لها.
وقد تجاوز بانوبتيكون كونه سجنا إلى كونه فكرة تم تكرارها بطرق مختلفة منها على سبيل المثال ترسيخ فكرة أن مكالمات الهاتف مراقبة لحظة بلحظة رغم أنها قد لا تكون كذلك، كما يقول البرنامج.
الحبس الانفرادي
لكن السجون بشكلها المجرد كمبانٍ وجدران ومعاملة ظلت واحدة من أكثر العلامات تعبيرا عن شكل الدولة، وقد قال الكاتب والفيلسوف الروسي الكبير فيودور ديستويفسكي في روايته الشهيرة “مذكرات من بيت الموتى” إن درجة تحضر أي مجتمع يمكن معرفتها بمجرد الدخول إلى سجونها.
ولم يكن حديث ديستويفسكي مجرد خيال كاتب، لكنه كان نتاج تجرية حقيقية عاشها الرجل عندما تم وضعه لمدة 8 أشهر في أحد سجون سيبيريا الباردة بتهمة الانتماء لجماعة فكرية مخالفة للدولة، وهناك كتب روايته سالفة الذكر.
وداخل هذ السجن، عاش الكاتب الروسي الكبير تجربة الحبس الانفرادي التي ابتكرها الإصلاحيون المتدينون بحجة منح السجين فترة للاختلاء بنفسه والاعتراف بذنبه، لكن هذا النوع من الحبس لا يعدو كونه درجة أكثر قسوة من التعذيب.
ففي هذا الحبس، يمارس السجانون ما يسمى بالصمت العقابي ضد السجين الذي لا يجد من يتحدث معه حتى إنهم يحاولون ارتداء أحذية لا تصدر صوتا خلال الحركة حتى يمنعوه من أي نوع من أنواع الاستئناس.
وعندما أراد ديستويفسكي وصف هذا الشعور، قال إنها مرحلة تتحطم فيها الروح بين الجدران انتظارا للإعدام أو للعفو، وإن السجون تمتص الإنسان وتخذله.
ولم يكن ديستويفسكي وحده الذي تحدث عن السجون، فقد وصف الرئيس البوسني السابق علي عزت بيغوفيتش الحبس الانفرادي بأنه “محدودية في المكان وفائض في الزمان”. وهي حالة قد تصل بالإنسان إلى مرحلة الهلاوس والانفصام عن الواقع، كما يؤكد الطبيب النفسي همام يحيى.