نساء بلا سند.. أرامل غزة يصارعن شبح التجويع وحدهن | سياسة

غزة- خيمة صامتة لا ينطق فيها إلا صوت واحد من فتاة سليمة في عائلة كاملة من الصم، تحمل وحدها عبء جوعهن، تجلس إلى جوار أمها وشقيقاتها في خيمة على قارعة الطريق، نساءٌ لا رجل معهن ولا معيل لهن، حيث استُشهد والدهن في الحرب، وخلّف وراءه صمتا وجوعا لا تُترجم كلماته، فلا شكاوى ولا صراخا، غير وجوه شاحبة، وأجساد تتهاوى وعيون تفضح بؤسا دفينا  تترجمه لغة الإشارة.

8 أيام كاملة مرت لم يدخل فيها فم العائلة سوى الشاي المرّ بلا سكر، فكيلوغرام السكر سعره 180 دولارا، وجيوب خاوية لا فلس واحدا فيها.

بصوتها الوحيد، تقول هداية بلال للجزيرة نت، “أنزع خجلي كل صباح، وأجر قدميّ وسط جموع الرجال نحو مراكز التوزيع، أنبطح حين ينبطحون، وأتوسل إليهم: أخواتي جائعات ليس لدينا شيء”.

**داخلية** عائلة من الصم، تتحمل شقيقتهن السليمة الوحيدة "هداية بلال" أقصى اليمين"عبء محاولة توفير الطعام لهن خاصة بعد استشهاد والدهن خلال الحرب
هداية (يمين) تتحمل بمفردها مسؤولية عائلتها بعد استشهاد والدها في الحرب (الجزيرة)

وحدة وشقاء

وبينما تتحدث، تضع شقيقتها الصماء كفيها على رقبتها، تبكي بحنق مكتوم، لا تستطيع أن تنطق، تساعدها هداية على الترجمة “أنا أختنق، أتمنى الموت، منذ أن تركنا أبي ونحن بلا سند ولا مدد”.

نساء يصارعن منذ عامين الحرب والنزوح وحدهن، واليوم ينقض عليهن وأطفالهن شبح التجويع، بلا ظهر يستندن إليه، وكما تتردد هداية على مراكز توزيع المساعدات مرارا دون يأس رغم أنها تعود في كل مرة خالية الوفاض، فإن أطفال الأرملة أم محمد ارحيم يمنعونها من الذهاب، ويؤكدون “حُرمنا من والدنا ولا نريد أن نعيش بلا أم”.

تجلس أم محمد في خيمتها أمام كومة من الغسيل، يداها تتحركان ببطء ووهن فوق قطع الملابس، تفركها بماءٍ بلا صابون، بعينين معلّقتين في نقطة بعيدة، عقلها شارد يغوص في سؤال واحد يعجزها، “ماذا سأطعم أطفالي اليوم؟”.

استأذناها في الدخول، قبلت وأقبلت علينا، كانت تمشي بثقل امرأة تحمل العالم فوق كتفيها، امرأة في منتصف الثلاثينيات لكنها بظهر منحنٍ، ووجه شاحب، وشفاه متشققة كأرض عطشى، وفي قدميها خرائط من الـ”دوالي”، وعلى ملامحها صمتٌ يصرخ.

فقدت أم محمد زوجها في حرب سابقة، وحين استشهد كانت حاملا بطفل لم يولد بعد، وما إن بدأت الحرب الجديدة حتى فقدت بيتها، لتبدأ رحلة نزوح قاسية، تمشيها بأقدام حافية و7 أطفال على كتفها، منهم طفلة مريضة بلا علاج.

يخرج ابنها بكر (5 سنوات) صباحا، تجوس عيناه على القدور المنصوبة على نيران الخيام المجاورة، يعود لأمه ويقول: “ماما جيراننا يخبزون، لقد رأيت أباهم حين أتى حاملا كيس الطحين، وأم خليل طبخت فاصوليا، ماذا سنأكل نحن اليوم؟”، تسقيه ماءً وتهمس “اصبر”.

زوجة الشهيد أم محمد رحيم تعول سبعة أطفال لوحدها، رغم معاناتها من أمراض مزمنة
أم محمد فقدت زوجها في حرب سابقة ومنزلها في الحرب الحالية وعانت من رحلة نزوح قاسية (الجزيرة)

معاناة صامتة

تنهار دموعها، تحاول أن تخفيها عنه، لكن صوت الجوع أعلى من قدرتهم على التجلد، يعاود الخروج بعد ابتلاع الصبر ويعود بنصف رغيف كل يوم، يقسمه بين إخوته، ويعطيها الجزء الأكبر قائلا: “حتى تتقوي، كلي يا ماما”. طعامهم اليومي عدس أو معكرونة، فقط إن تمكّن ابنها الأكبر محمد (15 عاما) من بيع الحطب الذي يجمعه منذ الفجر، وإن عاد فارغ اليدين، ناموا وليس في بطونهم سوى الماء.

تقول أم محمد للجزيرة نت، “أُرسل بناتي للخيام التعليمية لتعلم اللغات ولحفظ القرآن، أريد أن ينشغلوا عن التفكير بالجوع”، أما هي فتنهمك في أداء مهام روتينها اليومي، تعبئة المياه وحملها، وغسل الملابس، وتنظيف الحفرة التي يقضون فيها حاجتهم، وتحفر أخرى.

وأحيانا حين لا يكفيها هواء الخيمة، تسير وحدها في الخلاء بلا وجهة، تتوارى عن أنظارهم تذرف الدمع وتعود، “يجب أن أكون قوية أمامهم، لا أحب أن يروا انكساري”، كما تقول.

وإن كانت أم محمد قد اختارت أن تبقى في خيمتها خشية أن تفقد ما تبقى من حضنٍ لصغارها، فإن الأرملة أم عمر كحيل، التي لا تجد حولها من يحميها وأبناءها، لا تجد في السعي لإطعام أطفالها سوى التكايا.

تنهار دموع أم عمر، خلال حديثنا معها وهي عائدة من التكية، تحمل في يديها فراغا لا يسد جوعا ولا يملأ قدرا، جلست أمام خيمتها متعبة، وقد وضعت الوعاء الفارغ على الأرض بعدما حملته على رأسها ساعات عدة تحت لهيب الشمس، وتقول: “رجعت بخفيّ حنين وخاطري مكسور”.

مرت 4 سنوات منذ أن فقدت زوجها بعد مرض طويل، وأقل من سنة منذ أن ودعت اثنين من كبار أبنائها في الحرب، اللذين كانت ترى فيهما نجاة وسندا بعد رحيل زوجها عنها، فبقيت مع ثلاثة صغار فقط، “كانوا سندي بعد أبيهم، فلما راحوا بقيت بدون سند، وربنا سندنا”.

الأرملة أم عمر كحيل فقدت اثنين من أبنائها الكبار خلال الحرب، وبقيت مع ثلاثة صغار تقوم بمهام ثقيلة جدًا لرعاية أبنائها
الأرملة أم عمر فقدت اثنين من أبنائها الكبار في الحرب وبقيت مع 3 صغار تعتني بهم بمفردها (الجزيرة)

تضحية الأم

وفي ردها على سؤال الجزيرة نت: “هل وصلك شيء من المساعدات؟”، أجابت بتهكم “المساعدات للرجال، أنا امرأة لوحدي، من سيذهب للمدافشة بين الرجال، ليس لي أبناء كبار ولا رجل، نحن مهمشون، نحن خارج الحسبة”.

تسكن أم عمر خيمة خاوية إلا من الفراش المهترئ، وترفض أن ترسل أطفالها للوقوف في الطوابير المهينة، “مش راح أخليهم يذلوا حالهم.. خلي الذل عليّ”.

في خضم كل هذا، لا تفقد إيمانها، لكنه إيمان مخضب بالدموع والتعب، وتوضح ” لا شيء أقسى من قول ابنك إنه جائع وليس في يديك كسرة لتطعميه، هذا أصعب من الحرب، بل أصعب من الموت”.

تُمسك أم عمر بإيمانها كما تُمسك برغيف لا تملكه، لكنها في هذا الطريق الطويل من الفقد، ليست وحدها. فأم زينب أيضا خاضت الرحلة ذاتها، فقد نزحت مع زوجها جنوبا على أمل النجاة معه، ثم عادت بوجع أكبر ممسكة بأيدي بناتها فقط، بعدما أفلتت يد الرجل الذي ظنّت أنه سيبقى.

بدأت أم زينب تتجرع مرارة الفقد في أولى محطات الحرب، حين صرخ صاحب بيتهم المستأجر “ادفعوا أو اخرجوا”، فخرجوا، فهي لا تملك دخلا لتقيم بعد ذلك في خيمة منزوعة الأمان، دون باب أو جدار، ودون رجل”. وتقول بصوتها المتماسك: “لم أعط الحزن حقه، فالنهار يمرّ سريعا، يحملني من تعب إلى تعب، فلا وقت أقضيه وحدي أصلا كي أنهار”.

تسند نفسها بنفسها، تمد ظلّها لبناتها، وتمد يدها للتكية، تنتظر دورها في الطابور الطويل، تحمل أواني الماء، وتجمع الحطب، وتنظر إلى بناتها وتهمس لنفسها “لو كان عندي زوجي، لو عندي ابن كبير، لما عشت هذا البؤس قط”.

وترتجف كلماتها حين تقول “الطاقة خلصت، تعبت من ممارسة دور الأم البطلة التي تؤدي ما لا يقوى عليه الرجال، أنا جائعة”، تصمت ثم تتابع: “أنا جائعة للراحة من هذه الحياة، وجائعة للتخلص من التفكير ماذا سأطعم أبنائي غدا؟”.

عن شريف الشرايبي

Check Also

فيديو. “بدي شي من ريحته”.. طفل غزاوي يبكي أبًا قُتل قرب موقع توزيع المساعدات

وقالت وزارة الصحة الفلسطينية، الاثنين، إنه وصل إلى مستشفيات قطاع غزة 94 قتيلًا و439 إصابة …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *