بحث علمي منشور في مجلة “ساينس” العالمية يبشّر بمستقبل واعد للزراعة في البيئات الجافة، انطلاقًا من دولة الإمارات
الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، 31 يوليو 2025
— في دراسة رائدة نُشرت في مجلة “ساينس”، إحدى أبرز المجلات العلمية في العالم، كشف فريق بحثي دولي عن أن المجتمعات الميكروبية الكامنة تحت سطح التربة الصحراوية قد تمثل مفتاحًا لتحول جذري في مستقبل الزراعة المستدامة، بدءًا من دولة الإمارات العربية المتحدة.
فعلى الرغم من أن التربة الجافة والمتدهورة قد تبدو خاملة، إلا أن ما يجري في أعماقها يروي قصة مغايرة، قصة تبادل حيوي مستمر بين جذور النباتات والميكروبات المحيطة بها، تتشكل من خلاله علاقة تفاعلية تؤثر في الطرفين بطرق دقيقة لكنها ذات أثر بالغ. وتتناول الورقة العلمية الجديدة، التي شارك في إعدادها باحثون من الجامعة الأميركية في الشارقة، هذا التفاعل المعقد، وتقترح نموذجًا زراعيًا جديدًا قائمًا على علم البيئة ومدعومًا بأبحاث امتدت لعقود.
وقد جاءت هذه الدراسة ثمرة تعاون علمي استمر عامًا كاملًا، وضم الدكتور جون كليرونوموس، أستاذ الأحياء والكيمياء والعلوم البيئية ونائب عميد البحث العلمي والابتكار في كلية الآداب والعلوم بالجامعة الأميركية في الشارقة، إلى جانب الأساتذة قوانغتشو وانغ، فوسو زانغ وجونلينغ زانغ من جامعة الزراعة الصينية، والأستاذ ويم فان دير بوتن من المعهد الهولندي لعلم البيئة وجامعة فاخينينغن.
تركز الدراسة على مفهوم “التغذية الراجعة بين النبات والتربة”، الذي يوضح كيف تسهم النباتات، من خلال جذورها وإفرازاتها الكيميائية، في تشكيل المجتمعات الميكروبية في التربة، والتي تؤثر بدورها على قدرة النباتات في امتصاص المغذيات والمياه، ومقاومة الأمراض. وتعتمد فعالية هذه الحلقة التفاعلية على كيفية إدارتها، ما قد يُضعف النظام الزراعي أو يعززه.
وبالنسبة لدولة الإمارات، حيث تُواجه الزراعة تحديات مثل ملوحة التربة، وانخفاض نسبة المواد العضوية، وندرة المياه العذبة، فإن هذا النموذج يوفر مسارًا عمليًا نحو زراعة أكثر استدامة. ويعمل الدكتور كليرونوموس وفريقه في الجامعة حاليًا على تطبيق هذا النموذج في تجارب ميدانية تُستخدم فيها لقاحات ميكروبية، والتي هي فطريات أو بكتيريا نافعة تُضاف إلى التربة لدعم صحة النبات، إلى جانب محفزات حيوية طبيعية تساعد النباتات على النمو وتحسين مقاومتها للحرارة والتربة الفقيرة. وتُجرى حاليًا تجارب على محاصيل صحراوية مثل القمح ونخيل التمر، لقياس أدائها تحت ظروف بيئية قاسية عند دعمها يالميكروبات المناسبة.
وقال الدكتور كليرونوموس: “لطالما شكّلت العلاقة بين النباتات والميكروبات عنصرًا حيويًا في النظم البيئية، لكن الفارق الحقيقي يكمن في كيفية إدارة هذه العلاقة، خصوصًا في البيئات الهشة. هذا البحث يدفعنا لإعادة التركيز من الإنتاج السريع إلى استدامة وظائف التربة على المدى الطويل”.
وتُعيد الدراسة أيضًا تسليط الضوء على تقنيات الزراعة التقليدية مثل تدوير المحاصيل، والزراعة المختلطة، والحراثة المحدودة، باعتبارها ممارسات مدروسة بيئيًا تُسهم في تعزيز الحياة الميكروبية داخل التربة. وعند تنفيذها بناءً على فهم علمي للتفاعلات الحيوية، تُسهم هذه الأساليب في استعادة خصوبة التربة، والحد من الاعتماد على الأسمدة والمواد الكيميائية، وتهيئة بيئة زراعية أكثر استقرارًا على المدى الطويل.
وقالت الدكتورة جونلينغ زانغ من جامعة الزراعة الصينية وأحد المشاركين في إعداد الدراسة: “تمثل الحياة الميكروبية موردًا غير مُستغل بالشكل الكافي في الزراعة. وعندما نُعزز العمليات الحيوية في التربة، فإننا نُنشئ أنظمة أكثر استدامة وتكيفًا، وأكثر توافقًا مع منطق عمل النظم البيئية في الطبيعة”.
وتشير الدراسة أيضًا إلى تطورات علمية حديثة في مجال النبات، حيث يعمل الباحثون على تحديد الجينات والإشارات الجزيئية التي تتحكم في تواصل الجذور مع الميكروبات، تمهيدًا لتطوير أصناف نباتية تتفاعل بشكل أكثر فعالية مع البيئة الميكروبية للتربة، في توجه علمي واعد يدمج علم الأحياء الجزيئية بعلم الزراعة.
وكانت الجامعة الأميركية في الشارقة قد أطلقت “مجموعة الشارقة لأبحاث الزراعة المستدامة” لتعزيز هذا العمل على المستوى الإقليمي بالتعاون مع شركاء محليين، وتضم المجموعة من الجامعة الأميركية في الشارقة كلًا من الدكتور جون كليرونوموس، والدكتور محمد أبو العيش، أستاذ الأحياء والكيمياء والعلوم البيئية، والدكتور طارق علي، أستاذ الهندسة المدنية، بالإضافة إلى الدكتور علي القبلاوي من جامعة الشارقة. وتشمل خبراتهم مجالات علم بيئة التربة، والتحليل المكاني، وعلوم الاستدامة، وحماية النباتات المحلية، والتقنيات الحيوية، والتي تلتقي جميعها لتحقيق هدف رئيسي وهو استعادة الوظيفة الحيوية للتربة في البيئات الجافة.
وتقوم هذه الجهود على تحول جذري في النظرة إلى التربة: التربة ليست مجرد وسط خامد، بل كيان حي يتنفس، ويتغير، ويتفاعل مع طريقة إدارتنا له. ومن خلال التعامل مع التربة بصفتها نظامًا حيًا، يمكن للزراعة أن تتطور نحو حلول تُعزز الإنتاج الغذائي، وتدعم التكيف مع التغير المناخي، وتحمي التنوع البيولوجي، وتُرسخ ممارسات استخدام مستدام للأراضي.