لندن ـ “حين قرأت الأسماء، شعرت برغبة في الصراخ، كنت أريد أن يرتد صداها على جدران الكنيسة.. شعرت بعجزنا الكامل أمام هذه الإبادة”، بهذه الكلمات عبرت الناشطة البريطانية دوينا كورنيل عن مشاعرها خلال مشاركتها في فعالية رمزية استمرت 18 ساعة لتلاوة أسماء أكثر من 15 ألف طفل فلسطيني استشهدوا خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ورغم مرور أيام على تنظيم هذا الحدث الذي استضافته مدينة باث البريطانية، لا تزال أصداؤه لدى المشاركين فيه حية في وجدانهم، ليس بوصفه مجرد وقفة تضامنية، بل كفعل إنساني جمع بين الحزن والغضب، وسلط الضوء على المأساة المستمرة في قطاع غزة.
روبرتا (بوبي) هولينغسهيد، إحدى المشاركات في تلاوة الأسماء، وصفت التجربة بأنها “أصعب لحظة قراءة خاضتها على الإطلاق”، مشيرة إلى أن كل اسم كانت تتلوه يحمل وجها، وروحا، وقصة لم ترو.
تقول بوبي “كان شرفا لي أن أشارك. لم يكن الحدث مجرد ذكرى، بل استعادة للهوية التي سرقت من هؤلاء الأطفال. لقد أجبرتنا القراءة على التوقف والتفكير بكل واحد منهم، لا كرقم، بل كإنسان كامل كانت له حياة وأحلام”.

لحظة عميقة
بالنسبة لروبن لايفيلد، منسق حملة التضامن مع فلسطين في منطقة ستراود، فإن الحدث شكل لحظة شخصية عميقة، ويقول للجزيرة نت: “هناك قوة في الأسماء. إن تلاوة أسماء الأطفال الذين قضوا في إبادة جماعية أمر بالغ الألم، لم نستطع حبس دموعنا، لقد كانت التجربة مؤلمة ومقدسة في وقت واحد”.
ويضيف منسق حملة التضامن مع فلسطين في منطقة ستراود “هذا أقل ما يمكن أن نفعله، أن نمنحهم لحظة سماع، أن نعيد لهم اسمهم وسط ضجيج العالم الذي يتجاهلهم”.
أما الكاتبة والناشطة بولي كامبل، التي شاركت في تنظيم الحدث، رأت أن التركيز على تلاوة الأسماء “هو في حد ذاته عمل مقاوم”. وقالت “لا نريد أن تعامل أرواح هؤلاء الأطفال كأرقام في جداول الأمم المتحدة أو تقارير القصف. كل اسم يحمل معنى، يحمل وجعا وقيمة يجب ألا تنسى”.
وتابعت كامبل: “كان الأمل أن نشعر من حولنا بمسؤولية أخلاقية، أن يفهموا أن الصمت في وجه هذه الإبادة هو تواطؤ، وأن الوقوف إلى جانب الضحايا ليس خيارا، بل واجب إنساني”.

الصراخ الصامت
أما الناشطة البريطانية دوينا كورنيل فلم تخف انفعالاتها خلال الفعالية، وأوضحت “حين كنت أقرأ الأسماء، شعرت بأنني أصرخ صامتة. كنت أرغب أن يسمع العالم كله هذه الأسماء، أن يعود صداها على جدران الكنيسة وخارجها”.
وأردفت “لم تكن مجرد قائمة، كانت نشيدا حزينا، استدعيت فيه وجوه أطفال ربما لم أرهم في حياتي، لكنهم أصبحوا جزءا من ذاكرتي وقلبي، أشعر أنني مدينة لهم بأن أستمر في الحديث عنهم”.
وفي ختام الفعالية، ألقى الشاب الفلسطيني أحمد أبو عيشة، الذي يدرس في باث، فقرة مؤثرة قرأ فيها الأسماء لمدة نصف ساعة. وبينما كان صوته يرتجف، قال إن “والدتي وشقيقي لا يزالان في غزة، وقلبي هناك. هؤلاء الأطفال يشبهون إخوتي. كل واحد منهم كنت أعرفه بصمت”.
أحمد أكد أن مشاركته لم تكن واجبا وطنيا فقط، بل “تجربة شخصية عميقة”. وقال: “شعرت أنني أودعهم جميعا، كنت أردد أسماءهم وأرى وجوههم.. لم أستطع منع دموعي”.

تمييز فج
الفعالية، رغم رمزيتها، أثارت نقاشا واسعا بين المشاركين حول التغطية الإعلامية الغربية للحرب في غزة، حيث عبر عدد منهم عن استيائهم من التفاوت في التعامل مع الضحايا. ولم تقتصر المشاعر على المشاركين المنظمين، فالمارّة توقفوا وطلبوا القراءة، وقام المنظمون بتوفير الوقت لهم للمشاركة، كما شهد الحدث مشاركة شخصيات عامة بارزة مثل ويرا هوبهاوس، عضوة البرلمان المحلي، والمخرج السينمائي كين لوتش.
وعكست الوقفة العديد من الخلفيات الثقافية والاجتماعية من نواب وساسة وفنانين وناشطين، ولكنها لم تخل من مشاركات من المارة بشكل إنساني، ومن لم يشارك في قراءة الأسماء شارك بتوقيع حضوره في كتاب تضامني باسم “الحب والعزاء”، أملا أن تمثل هذه المشاركات اعتذارا للمشاركين أمام أطفال غزة.
ورغم طغيان الحزن على الفعالية، فإن المشاركين أكدوا تمسكهم بالأمل، وقالت هولينغسهيد: “حين ننطق الأسماء، نعيد بناء الجسور المقطوعة، بين الماضي والحاضر، بين الألم والعدالة”.

وأكدت كامبل أن التحرك لن يتوقف، بل سينتقل إلى محطة جديدة في سبتمبر/أيلول المقبل، من خلال مسيرة ستقام قرب باث لتلاوة الأسماء التي لم تقرأ بعد.
وأضافت “وصلتنا دعوات من مدن في بريطانيا وكندا لتنظيم نسخ مشابهة. يبدو أن هذا الفعل البسيط، المتمثل بنطق الأسماء، لديه القدرة على تحريك القلوب وتغيير السردية”.
وفي ختام حديثها مع الجزيرة نت، قالت كامبل “إنهم ليسوا مجرد أرقام، وليسوا ضحايا حرب تنسى. كل طفل له اسم.. وله حق في أن يسمع، وأن تحفظ ذكراه حية في وجدان العالم. لقد قرأنا الأسماء لنقول إننا نراهم، نسمعهم، ولن ننساهم أبدا”.