غزة- لم يعد المصور الصحفي محمود أبو حصيرة قادرا على حمل كاميرته والسير لمسافات طويلة لاستكمال تغطيته الميدانية في شوارع غزة التي يغطيها الركام والبارود والغبار المتطاير بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة على أحياء المدينة.
يشتكي أبو حصيرة، الذي فقد أكثر من 15 كيلوغراما من وزنه، من اجتماع الخطر والتجويع والظروف المعيشية القاسية عليه كغيره من الصحفيين الذين أصابهم الإرهاق بعد أكثر من 21 شهرا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
ويقضي أبو حصيرة، الذي يعمل في مؤسسة إعلامية محلية، يومه بين البحث عن قصة في ظل تشابه أوجاع الغزيين ومحاولة ترميم معداته التي لا يتوفر بديل لها، وبين إنفاق الكثير من الوقت لتوفير قوت يومه الذي لم يعد متاحا.
وينعكس حاله على عشرات الصحفيين في غزة الغارقين بتفاصيل العمل اليومية الخطيرة، والمتطلبات الحياتية التي تمكّنهم من استمرار التغطية.

جوع وتحريض
وتصف مراسلة قناة “تي آر تي عربي” في غزة، الصحفية ربا العجرمي، ظروف عمل الطواقم الإعلامية بالمعقدة، وتزداد خطورتها مع تواصل عمليات القتل الممنهج للصحفيين، بالتزامن مع استهداف الاحتلال الإسرائيلي للمواقع الحيوية داخل المدن حيث يوجَد الصحفيون، ومنها محيط المستشفيات.
وتقول العجرمي للجزيرة نت إن عمليات التحريض التي تشنها صفحات مشبوهة عبر منصات التواصل الاجتماعي على الصحفيين، والتي غالبا ما يتبعها استهداف إسرائيلي مباشر لهم، تعد من أبرز التحديات التي تواجه الإعلاميين في القطاع.

وتشعر الصحفية بالعجز والقهر عندما تفكر في المتطلبات المعيشية لأبنائها الذين يعيشون لحظات الخوف اليومية، وتفاصيل المجاعة والحصار الخانق وغياب الاحتياجات الأساسية من الأسواق. ورغم أن عملها يتطلب التركيز في التغطية على الهواء مباشرة، فإن شدة العدوان يزيد إرباكها خوفا على أطفالها.
وتقول العجرمي “رغم كل ما يجري فإننا في مهنة تتطلب منا تحدي كل الأوضاع الإنسانية القاهرة مهما كانت، في سبيل استمرار نقل الصورة والحقيقة وحمل الرسالة للعالم”.
وتعمل العجرمي كغيرها من الصحفيين في بيئة عمل صعبة، بعدما قصفت إسرائيل معظم المكاتب الصحفية وشركات الإنتاج الإعلامي، مما تسبب في غياب الخدمات، بينها عدم توفر أستوديوهات للبث، والعمل بمعدات وأجهزة دون الكفاءة المطلوبة، مما يضع الصحفي أمام تحديات على مدار الساعة.

مهام صعبة
واضطر الصحفي هاني الشاعر مراسل قناة الجزيرة في محافظات جنوب غزة للنزوح أكثر من 10 مرات خلال الحرب المستعرة على القطاع.
ويقول الشاعر -في حديث خاص للجزيرة نت- إن الصحفي وأسرته ليسوا بمعزل عما يحدث في المجتمع من خوف وعدم الشعور بالأمن، في ظل انهيار شبه كامل للمنظومة الخدماتية التي تجعل من الظروف المعيشية أكثر قساوة.
وكان الشاعر شاهدا على الاستهداف الإسرائيلي لعدد من الصحفيين ومركباتهم وخيامهم التي اتخذوها بديلا عن مقراتهم المدمرة، مما أفقدهم معظم معداتهم الخاصة بالعمل، التي يصعب تعويضها في ظل الإغلاق المحكم للمعابر التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، لافتا إلى أن تعطل المعدات والهواتف وأجهزة الصوت يزيد من صعوبة مهامهم مع غياب البدائل.
وأشار الشاعر إلى أن مواصلة الصحفيين في غزة عملهم، على مدار الأشهر الماضية، محاطة بكثير من التحديات اليومية سواء من حيث الخطر المحدق بهم، أو صعوبة التواصل، وصولا إلى المجاعة التي أرهقتهم.
وأضاف مراسل الجزيرة أن “المجاعة فتكت بكل فئات الشعب الفلسطيني، ومع ذلك نحاول قدر المستطاع أن نصبر أنفسنا ونستمر في التغطية، والوقوف أمام الكاميرا لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، رغم أن ذلك يتطلب منا جهدا مضاعفا في هذه الأوقات العصيبة”.

بلا مقومات
أما مراسل قناة الميادين في غزة، أحمد غانم، فيرى أن العمل الصحفي ينطوي على مغامرة ومخاطرة كبيرة، ولا يشبه أي واقع آخر، فبينما كل الصحفيين في العالم يتمتعون بحقهم بالعمل بحرية وأمان وتحت سقف من الديمقراطية دون ملاحقة، فإن صحفيي غزة يدفعون ثمن نقل الحقيقة، ويخرجون من بيوتهم ولا يعلمون هل سيعودون أم لا؟
وأوضح غانم للجزيرة نت أن الصحفيين يعملون في ظل غياب جميع المقومات، فلا يأمنون على حياتهم، ولا يجدون سترات واقية ولا خوذ ولا كهرباء ولا إنترنت، ولا يملكون الوقت لينالوا قسطا من الراحة.
ويشير إلى حجم المسؤولية التي تقع على عاتق الصحفيين الفلسطينيين، فرغم الخوف والتهديد فإنهم يؤمنون بضرورة استمرار رسالتهم ووصول صوتهم، لأن الصمت في هذه الأوقات التي تراق فيها الدماء جريمة.
ويتحدث غانم عن “الصمت المريب” للجهات التي يقع على عاتقها حماية الصحفيين، وغياب لجان تقصي الحقائق والاتحادات الدولية عن الجرائم الإسرائيلية باستهدافهم، مما دفع صحفيين لكتابة وصاياهم، وجعلته يحمل صور أطفاله في تنقلاته الميدانية لعل أحدا يتعرف عليه من خلالهم حال استشهد ولم يكن هناك ما يدل عليه.
ويصف غانم الحال المرعب الذي وصل إليه الصحفيون في غزة، قائلا “بات خبر استشهاد الصحفيين يمر سريعا بلا قصة، ومع ذلك يواصلون مسيرتهم في الميدان ويتنقلون بين الأزقة والأماكن المدمرة، لأن ذلك قد يمنع مجزرة أو يحرك العالم، لهذا غزة تستحق ألا تترك دون صورة”.
ويضيف “نخوض معركة يومية من أجل الحقيقة، والصحافة في غزة لا تعتبر سلطة رابعة، وإنما واجب مقدس نمارسه على حافة القبر”، منوها إلى غياب الدعم النفسي والمهني، الذي يمكِّن الصحفيين من التعامل مع الحجم الهائل من الدم والمجازر التي يغطيها يوميا.

إنكار لحقوقهم
ويسلط الصحفي عبد القادر صبّاح الضوء على تحديات خفية تقف بوجه الكثير من صحفيي غزة إلى جانب البيئة الصعبة التي يعملون بها ومواجهتهم آلة القتل الإسرائيلية بشكل مباشر، والتي تتمثل بعدم حصولهم على مستحقاتهم المالية بشكل منتظم، وأحيانا تعمد بعض المؤسسات تجاهلها، دون وجود جهات تحمي الصحفيين أو تطالب بحقوقهم.
ورغم أن صحفيي غزة محاطون بالمخاطر فإن الكثير منهم يعملون لدى مؤسسات دون عقود عمل تحفظ حقوقهم، وأحيانا يتعرضون للفصل التعسفي، يقول صباح، وبالتالي يقع الصحفي حائرا بين استكمال واجبه الوطني والأخلاقي ورسالته الإعلامية، وبين البحث عن حقوقه المفقودة.
وعبَّر صبّاح عن أسفه لاستغلال العديد من المؤسسات العربية والدولية للواقع الصعب في قطاع غزة للتنصل من إرسال المستحقات المالية للصحفيين بأعذار تتعلق بصعوبة تحويل الأموال وحتى تعمد بعضها تجاهلهم لأشهر طويلة.
كما أن بعض المؤسسات تحصل على أكبر عدد من التقارير والمواد الميدانية من الصحفيين بغزة، وفي النهاية لا تدفع لهم مقابل يوازي الأخطار التي يتعرضون لها خلال عملهم.
وطالب صبّاح بضرورة تحرك الأجسام المعنية بحقوق الصحفيين لمساعدة صحفيي غزة، لا سيما الجيل الجديد منهم للحصول على كامل حقوقهم.
يذكر أن الاحتلال الإسرائيلي قتل منذ بداية عدوانه على قطاع غزة 228 صحفيا، وأصاب 421 آخرين، فيما يواصل اعتقال 48 صحفيا داخل سجونه.