ماذا تريد إسرائيل من قصف دمشق؟ | سياسة

خلافًا لما درجت عليه إسرائيل بقصف الأهداف العسكرية الميدانية في سوريا من أرتال ومستودعات ورادارات وحتى مدرّعات، قام سلاح الجو الإسرائيلي للمرّة الأولى باستهداف مبنى قيادة الأركان في العاصمة دمشق، لتترك تل أبيب – منتصف يوم 16 يوليو/ تموز 2025- أثرًا سياسيًا أكبر بكثير من الدمار والتشويه الذي تركه القصف في المبنى المطل على ساحة الأمويين والسيف الدمشقي فيها.

القصف الإسرائيلي لهذا البناء بما يحمله من رمزية تُمثّل السيادة السورية، كان تطورًا خطيرًا في طبيعة التدخل الإسرائيلي في الشأن السوري، وفضلًا عن سقوط عشرات الشهداء من قوات الأمن والجيش في القصف الإسرائيلي، فإن الرسالة الصريحة التي قرأتها حكومة دمشق هي الانتهاك والتعدي المباشر على سيادتها، في الوقت الذي تدرك فيه عدم قدرتها على الرد أو المواجهة.

في لحظة ما أدركت الحكومة السورية أنها أمام معضلة كبيرة نتيجة هذا التدخل الإسرائيلي السافر، وأن إسرائيل قد تذهب أبعد من ذلك، وأن دمشق تحتاج إلى التهدئة، إذ لن يسعفها أي موقف خارجي من الحلفاء أو الأصدقاء.

كما هو متوقع فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم تؤثر في سياساته مواقف دول المنطقة والأمم المتحدة المستنكرة لتدخلاته العسكرية وقصفه المتكرر لدرعا والسويداء، في المقابل فإنه وجد فرصة لإقناع القضاء بضرورة تأجيل المحاكم التي تلاحقه في تل أبيب، فانطلق ليشرف بشكل مباشر على توسيع القصف إلى وسط دمشق ومحيط القصر الرئاسي فيها.

ما الذي أزعج إسرائيل هذه المرّة؟

جاء القصف الإسرائيلي لدمشق بعد ثلاثة أيام من المعارك والفوضى التي عمّت السويداء، وتحديدًا مع الاقتحام الواسع من الجيش السوري المدينة وأحياءها واقترابه من معاقل المجلس العسكري فيها، ومواقع أتباع الشيخ حكمت الهجري في بلدة “قنوات”، الأمر الذي تزامن مع ضغط سياسي كبير مارسه أتباع طائفة الموحدين الدروز في إسرائيل، مستجيبين لنداءات المرجع الروحي للطائفة في الجليل الشيخ موفق طريف.

ومع ذلك فإن موقف تل أبيب لا يقتصر على الاستجابة لدروز إسرائيل بما يمثلونه من نسبة جيدة في جيشها، بل يتعدى ذلك لإعلان الاستياء من القرار الذي اتخذته حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع بإقحام الجيش بأرتاله ومدرعاته في جنوب سوريا، المنطقة التي تسعى إسرائيل لجعلها منزوعة السلاح بالكامل، وممنوعة على قوات الجيش، وما بقي لديه من سلاح وعتاد.

هل يعكس قصف دمشق موقف إسرائيل من الحكم الجديد في سوريا؟

رأت إسرائيل أن الحكومة السورية قد تجرأت على المحظور بعدم التزامها بخلو الجنوب السوري من الجيش وسلاحه، واقتصار وجود الدولة على الأمن والشرطة والموظفين المدنيين، الأمر الذي استدعى إسرائيل هذه المرة لمعاقبة سوريا، وليس مجرد توجيه الرسائل والتحذيرات للحكومة الجديدة فيها.

في المقابل وجدت حكومة نتنياهو الفرصة مناسبة للاستثمار في إضعاف الحكومة السورية، وهز صورتها داخليًا وخارجيًا، الأمر الذي كانت الضغوط الأميركية تحرمها منه قبل أحداث السويداء.

لا تلتزم إسرائيل بحماية طائفة أو أقلية إثنية في سوريا بمقدار التزامها باستغلال فرص الاستثمار في الفوضى والأزمات؛ لتحقيق مصالحها الحالية، وتوفير المزيد من المكتسبات التفاوضية المستقبلية، وهي ضمن هذا الإطار تتبنى دعوة الشيخ الهجري الذي يعلن عداءه الصريح للحكومة السورية، وعدم اعترافه بشرعيتها.

رغم فتح باب المفاوضات بين سوريا وإسرائيل بدعم أميركي ووساطات إقليمية متعددة، وكل ما قيل عن المراسلات غير المباشرة أو اللقاءات المباشرة في باكو وأوسلو، فإن الموقف الحقيقي لإسرائيل من الحكم الجديد في سوريا هو تمامًا الموقف الذي يعبر عنه الشيخ الهجري ويعلنه المرة تلو الأخرى، وهو تمامًا ما يجعل إسرائيل تتدخل مع استدعاء الشيخ الهجري للتدخل الخارجي والحماية الدولية، بينما لا تدعم موقف باقي مرجعيات الطائفة في سوريا، سواء المرجعيات التقليدية مثل الشيخ حمود الحناوي، والشيخ يوسف جربوع، أو القوى الناشئة في الثورة من القادة والزعامات المحلية، مثل ليث البلعوس، ويحيى الحجار، وسليمان عبدالباقي.

موقف واشنطن من التصعيد ضد دمشق

يعتقد أن إسرائيل لا تتحرك إلا بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، وقد يتقن الطرفان تبادل الأدوار فتطلب واشنطن التوقف عن القصف جنوب سوريا، فتكون استجابة تل أبيب بالتصعيد الذي يشمل قصف العاصمة دمشق.

ربما يكون هذا أكثر ما ستخشاه الحكومة السورية، حيث تعتمد على أن الموقف الأميركي تجاهها مختلف عن الموقف الإسرائيلي، وأن اعتداءات القوات الإسرائيلية على السيادة السورية ومحاولات الاستثمار في الفوضى ومنع الاستقرار لا سبيل إلى مواجهته إلا بالاعتماد على أن الموقف الأميركي مختلف وسيتدخل، فإن كانت دمشق قد أخطأت تقدير المواقف الخارجية مع تخطيطها للتدخل في السويداء، فهي أمام مشكلة كبيرة، وعليها إعادة حساباتها.

في المقابل فإن إدارة ترامب ستتدخل لتعيد الأطراف جميعًا إلى مسار المفاوضات، وإتمام دخول الجميع في الاتفاقيات الأبراهامية، لكن هذا لا يعني أنها معنية بالتدخل لمنع إسرائيل من معاقبة الحكومة السورية بما لا يؤثر جوهريًا على مبدأ استقرار المنطقة، انطلاقًا من استقرار سوريا ولبنان.

لن يزعج واشنطن استخدام تل أبيب القليل من القصف والتدمير في سبيل الكثير من الإلزام والضبط، بل هذا هو أحد مبادئ الرئيس ترامب والذي يعبر عنه بشعار: “تحقيق السلام باستخدام القوة”، وهذا يناسب إسرائيل غير المعنية باستقرار الحكم الجديد في دمشق، خلافًا لباقي حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، الساعين لدعم الرئيس الشرع واستقرار حكومته وتقويتها.

على أن واشنطن ستتدخل لإيقاف تل أبيب عندما تقدر أن الضغوط الإسرائيلية باتت مهددة لاستقرار حكم الرئيس الشرع في سوريا، ذلك أن استقراره هو الضامن لعدم عودة إيران إلى سوريا، وهو الضامن لإعادة التموضع السوري مع الغرب في خارطة التحالفات الإقليمية والدولية، وهو القادر في سوريا على إنهاء منظومات ما دون الدولة لصالح حكومة ضامنة للأمن والاستقرار المنسجم مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.

آثار قصف مبنى قيادة الأركان في دمشق ومآلاته

بعيدًا عن النظر في الخسائر البشرية والمادية وحتى المعنوية، فإن القصف الإسرائيلي الذي خرج عن المعتاد- فطال تدمير جزء من واجهة مبنى قيادة الأركان في دمشق- سيترك أثره وتداعياته السياسية في طريق الحكومة السورية التي تواجه أساسًا جملة من التحديات على كافة المستويات، لا سيما الاقتصادية.

قد تكتفي إسرائيل بما حصل مع عودة الجيش السوري إلى ثكناته بعيدًا عن الجنوب، لكنها قد رسمت شكل التدخل الذي من الممكن أن تبادر به في حال تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها في المنطقة، خاصة أن حكومة نتنياهو تعيش ذروة الصلف والتباهي باستخدام فرط القوة، بعد تدميرِها غزة، وقضائها على حزب الله في لبنان وادعائها إسقاط نظام الأسد في سوريا، واعتقادها الانتصار المطلق في حربها على إيران.

من جانب آخر، فإن قصف قيادة الجيش ومحيط القصر الرئاسي في أي دولة هو دليل صريح وحجة صارخة على أن هذه الدولة أبعد ما تكون عن الأمن والأمان والسلام والاستقرار، وبالتالي فهي أبعد ما تكون عن استقطاب الفرص وإغراء المستثمرين، الأمر الذي يسير في اتجاه معاكس لما تريده الحكومة السورية، وتسعى إلى تحقيقه في أسرع وقت ممكن لإنقاذ الاقتصاد، ورفع معاناة السوريين الذين ضاقوا ذرعًا بسوء المعيشة، وتردّي الأوضاع في البلاد.

تحتاج الحكومة السورية إلى رفع العقوبات الأميركية بشكل فعلي وعملي تبدأ آثاره بالظهور في مختلف القطاعات الاقتصادية والتنموية، الأمر الذي لم يحصل منه شيء بعد، رغم الوعود الأميركية وإصدار القرارات التنفيذية.

وإن ما تخشاه الحكومة السورية وجميع السوريين أن تلقي الأزمة الأخيرة في السويداء وانعكاساتها على مسار التفاهمات مع إسرائيل بظلال ثقيلة على مسار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، بتأخير، أو تعطيل، أو تردد من الجانب الأميركي.

كذلك فإن موقف إسرائيل وقصفها العاصمة دمشق بهذا الشكل، قد قلل من ثمرة الحسم العسكري الذي انتهت به الأمور في السويداء لصالح الحكومة السورية، بل إنه يترك الفرصة لاحقًا لعودة التوترات في المحافظة، فضلًا عما ستتأثر به القوى المعارضة للاندماج مع الحكومة السورية شمال شرق البلاد.

تنظر دمشق إلى تطور الموقف الإسرائيلي بعين الريبة والقلق، فما جرى لن يتوقف تأثيره على تأخر التعافي والاستقرار فحسب، وإنما قد يؤدي إلى تنامي الضغط الإسرائيلي على الولايات المتحدة لتغيير موقفها من الحكم الجديد في دمشق، وبالتالي تتأثر واشنطن وتعيد حساباتها في المنطقة، وتؤثر بذلك على حلفائها الداعمين لحكومة الرئيس الشرع.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

عن شريف الشرايبي

Check Also

سرايا القدس تقصف غلاف غزة وتستهدف “مستعربين” بخان يونس | أخبار

17/7/2025–|آخر تحديث: 18:59 (توقيت مكة) بثت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، اليوم الخميس، مشاهد …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *