في دمشق، لا تكتب الطرق أسماءها عبثًا، ولا تنحت الأزقة ملامحها على الحجر مصادفة؛ فكل اسم في هذه المدينة أشبه بجرح له حكاية، وكل زقاق فيها كتاب مفتوح على صفحات الغيب والحضور.
هنا، حيث يتواطؤ الزمان والمكان على صياغة الأبدية في هيئة بشر وحجارة، تصبح أسماء الأحياء والأبواب مثل شيفرات سرية لا يفكها إلا من أخلص الولاء لذاكرة المكان.
كل حارة هنا قصيدة لا تنفد أبياتها، وحكاية لا يخبو صداها، وكل حجر مرصوف في طرقاتها كان ذات يوم كتفًا لحلم، أو شاهدًا على دمعة، أو مسندًا لخطى عاشق مضى في ليله يتبع قلبه، وحتى الأشجار المتكئة على الجدران العتيقة ليست مجرد خضرة متعبة؛ إنها شهود عدل على عهد لم يكتبه مؤرخون، لكنها بقيت راسخة في الحجارة الموشومة، وفي حفيف الذاكرة، وفي رائحة الياسمين الذي لا يملّ أن يزهر رغم كل المحن.
في قلب هذه المدينة، التي ما زالت تتنفس عبق الحضارات رغم ما رماها به الزمن من أوجاع، يقف حي باب سريجة مثل وشم على وجه الزمان، وليس وشمًا عابرًا كما في أيدي العابرين، بل نقش عميق محفور في قلب الجغرافيا والتاريخ والناس، إنه شاهد على ما كان، كأنه يعِد بما سيكون، ممتدًا كهمس بين تاريخ مهيب تتناسل منه الحكايات، وواقع يئنّ تحت خطى المحنة لكنه لا ينكسر.
ليس حي باب سريجة بابًا وحسب؛ فالباب في اللغة بوابة ومرور، لكنه هنا عتبة إلى الروح الدمشقية نفسها، فكأنه الموضع الذي إن عبرته اكتشفت طينة المدينة التي صيغت منها دمشق القديمة؛ إنه باب مشرع بين أصالة تتشبث بتلابيب الذاكرة، وحداثة تتسلل إلى الأزقة فيستوحشها المكان ولا يألفها تمامًا، كأن الأزقة تصير مخيفة للحداثة، والحداثة تخجل من مواجهة الأزقة، هنا تتجلى المفارقة؛ حي يريد أن يحافظ على شكله القديم وروحه المتجددة في آن معًا.

باب سريجة يتكئ على خاصرة سور دمشق الجنوبي، كأنما يستند إلى صدر أمه، أو كأنه جرح يسند المدينة بقدر ما يستند عليها، هو باب ونافذة معًا، وممر سري يفضي إلى حكايات صاغتها مئات الأعوام، وفي صمته أحيانًا سماع لهمسات أجيال مضت، وفي ضجيجه نبض حياة لا يريد أن يخبو.
يعيد المؤرخون نشأة حي باب سريجة إلى العصر المملوكي، حين كانت هذه البقعة خارج سور المدينة، ضاحيةً راقية على خاصرة دمشق الجنوبية الغربية، تتنفس هواء البساتين وتطلّ على ميدان الفروسية، وتؤدي دورًا يفوق ما تحتمله أزقتها الضيقة اليوم، فقد سكنها أحد ولاتها في ذلك العصر، المعروف بـ”التيروزي”، فأنشأ فيها جامعًا وحمّامًا ما زالا قائمين حتى الآن، شاهدين على عصر جعل من هذا الحي مركزًا نابضًا للفرسان والحرفيين.
أما الباب التاريخي الذي حمل اسمها، فكان واحدًا من الأبواب الأربعة المضافة إلى سور دمشق في القرون اللاحقة، إلى جانب باب الصالحية، وباب مصلى، وباب الميدان، مكملةً السبع بوابات القديمة التي حفظت المدينة في حضنها قرونًا طويلة.
في الحكاية الشعبية، التي لا تخلو من خيال شاعري، يقولون إن اسمه (سريجة) جاء من معنى السرج الصغير أو المصباح الخافت، كأن الحي كان دائمًا مصباحًا صغيرًا ينير ليالي دمشق الحالكة، يهدي الغريب إلى قلب المدينة حين تضل خطواته؛ فكان كأنه يقول للعابرين: هنا دمشق. هنا الدفء ولو في أقصى العتمة، هنا الباب الذي إن دخلته عرفت معنى الانتماء.

وقال آخرون إن الاسم مشتق من “السريجية”، وهم صانعو السروج وأرباب الخيل الذين اتخذوا الحي مركزًا لصناعتهم قبل قرون، فكأن الاسم يخبّئ بين حروفه بريق الخيول حين كانت دمشق تفتح أبوابها على قوافل المجد، كأن كل حجر في الحي قد صيغ من حوافر الخيل وهي تطرق دروب الشام إلى الأسواق والحروب معًا.
وأيًّا يكن الأصل، فإن الاسم أضحى أكثر من مجرد لفظ، لقد صار رمزًا لذاكرة مشعّة ولو منطفئة الأطراف، كجمرة تختبئ في الرماد لكنها لا تزال تحمل في أحشائها وهجًا يكفي لإشعال المدينة من جديد لو شاءت يد أن تنبشها.
باب سريجة، إذن، ليس اسم حي فقط، بل اسم لدرس في الذاكرة الجماعية، درس عن قدرة المكان أن يحتفظ بصورته في القلب مهما تغير شكله في الواقع، ودرس عن الإنسان الذي يعيش في الحي، والحي الذي يعيش في الإنسان؛ فهنا في باب سريجة، تتلاشى الحدود بين الحجر والبشر، بين الماضي والحاضر، بين الحكاية والواقع.
كانت القرى والعشائر البدوية تأتي من الشام والعراق ونجد والحجاز، فتربط خيولها في خانات السوق، تستحم في حماماته القديمة، تركع وتصلي في مساجده الملاصقة، وتأخذ راحتها قبل أن تعود إلى أسواق المدينة، وفي هذه الحجرات المتداعية المتعانقة، التي ما زالت جدرانها تفوح برائحة التاريخ، جلس مئات الصنّاع يطرقون الحديد ويغزلون الحبال ويهيئون زينة الخيل والركائب، وفي هذه الأزقة طرق آلاف الفرسان بخيولهم استعدادًا لمعارك الغد.
أما اليوم، وقد انقضى عهد الفروسية وحلّت الآلة محل الدابّة، فقد تحولت الحجرات القديمة إلى دكاكين للأطعمة والمأكولات، فهنا تنتظم عشرات محلات الألبان ومشتقاتها بنكهات شامية عريقة، وتتجاور مع عشرات محلات المخللات واللحوم، والمعلبات والمكسرات التي يتربع الجوز على عروشها بأكوام شاهقة من كل أصقاع آسيا. وعلى مشارف السوق، يتفرع الزقاق يسارًا نحو شارع خالد بن الوليد، حيث تزاحمك محلات الخضار والفواكه حتى تكاد لا تخرج إلا بشق الأنفس؛ تلمح العنب والدراق والرمان والشمام والموز والصبار، القادم في معظمه من بساتين المزة وحوران الخصبة، ويتخلل هذه الأكداس دكاكين الملابن والمخللات والمحمصات والبهارات، فتفوح روائح الشام على امتداد الطريق.
وكعادة حارات دمشق العتيقة، ما إن تخطو خطوات قليلة حتى تصادفك أبواب المساجد، على اليمين وعلى اليسار، فلا عناء في البحث عن محراب؛ المساجد هنا تصطدم بك وتدلّك على أبوابها، أما حمامات السوق الدمشقية التي استحم فيها من سبقنا فما زالت قائمة لمن أراد أن يترك جلده بين أيد شامية خبيرة تعرف كيف تمحو عنه غبار الأيام.

الموقع.. حيث يقاوم القلب النابض الغياب
يقع حي باب سريجة في موضع يشبه القلب حقًّا، لا في جغرافيته فحسب، بل في رمزيته أيضًا؛ إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي الكبير، في حضن سور دمشق القديمة الذي تناثرت حوله الحكايات كأوراق الخريف، يقف هذا الحي على تماس دائم مع كل ما يكتنز من تاريخ، ومع كل ما يرشح من صراع يومي على البقاء؛ فمن جهة، هو قريب من قلب الأسواق العريقة؛ سوق الحميدية، سوق مدحت باشا، سوق البزورية، ومن جهة أخرى يجاور حي ساروجة وأزقته الغارقة في الأسرار، ومن ناحية ثالثة ينفتح على شارع النصر الذي ينقل إليه أنفاس المدينة الحديثة بزحامها ولهاثها.
هنا، عند تقاطع القديم بالجديد، يصبح الحي مثل خيط رفيع يشدّ أطراف المدينة بعضها إلى بعض، أزقته المتلوية كأنها خيوط سحرية، ترسم على الأرض ما يشبه نقشًا غامضًا أو خارطة روح، ليس فيها استقامة زائفة ولا انتظام بارد، بل فيها ذاك العبث الجميل الذي يجعل كل زاوية مفاجأة، وكل ممر دعوة للتيه الجميل.
في الصباحات الدمشقية، حين تبدأ الشمس بالتسلل إلى أفنية البيوت الحجرية، تصحو البيوت القديمة على وقع النداءات الصباحية للباعة؛ كأن الحي يفتح عينيه على أصوات: “عنب، تين، تفضلوا يا ناس…”، وعلى رائحة الخبز الطازج المتدفق من أفران الطين، تصحو جدران البيوت ككائن حي؛ تتثاءب الشرفات، وتبتسم النوافذ، وتتنهد السطوح، هذا الحي ليس مجرد مكان يسكنه الناس، بل هو مكان يسكن الناس في أرواحهم.

في باب سريجة تتشابك الأزمنة كما تتشابك الأزقة، ترى فيه حكايات الأيوبيين وقد حفرتها المعارك وأحلام التحرير على جدرانه، وتشهد فيه ظلال المماليك الذين أحاطوا دمشق بحضارتهم وأسواقهم وأرواحهم، وفي طيات زواياه يختبئ عبق العثمانيين في أسلوب بناء البيوت، وتنام أحلام الصالحين والفقراء في الحارات المتواضعة التي غدت مع الزمن عناوين لصبر طويل.
تحسبه حيًّا صغيرًا حين تنظر إليه بعين الجغرافيا؛ فهو ليس واسع الرقعة ولا متباهيًا بساحات رحبة، ولكنه حين تنظر إليه بعين القلب تدرك أنه مدينة كاملة في روحه، وطن في ذاكرته؛ لا لأنه يحوي حجارة كثيرة أو أسواقًا طويلة، بل لأنه يحتوي على ما لا تراه العين؛ المهاجرين الذين وجدوا فيه ملاذهم، الحرفيين الذين أورثوه حِرفهم جيلًا بعد جيل، والدمشقيين الذين أوقدوا فيه نار محبتهم حتى صارت كل حارة فيه شمعةً صغيرة تضيء المدينة الكبيرة.
باب سريجة يقاوم الغياب بهذا كله، ويقاوم أن يكون طيّ النسيان، ويصرّ أن يبقى بابًا مفتوحًا لذكريات لا تقبل أن تموت، ففي زمن تهجر فيه الأرواح أحياءها، ما زال هو حيًّا؛ لا لأن الحجر صامد، بل لأن الذاكرة فيه لا تزال حية.

باب يشتهر بالسوق والروح
لم يكن باب سريجة يومًا مجرد باب في سور المدينة، بل كان منذ أزمان بعيدة بوابةً مفتوحة على صخب الحياة الدمشقية وهدوئها في آن معًا. فهو السوق الذي تشهد أزقته الضيقة كيف ينسج الحرفيون خيوط نهارهم الطويلة، وكيف تبرع أصابعهم في ترويض النحاس والحبال والغزل، حتى يصير لكل شيء فيه روح دمشقية تلمع بين اليدين.
في سوق باب سريجة، الذي ما زال يحمل الاسم نفسه، تتوزع الدكاكين كحبات عنقود مكتمل، فهنا باعة الغزل الذين تتدلى من دكاكينهم لفائف الصوف بألوان كأنها ألوان قوس قزح المعتق، وهنا صانعو النحاس الذين تنبض مطارقهم على صحون ودِلال وفوانيس فتملأ الفضاء رنينًا معدنيًّا شجيًّا، وهناك باعة الفواكه المجففة الذين يرصّون تينهم ومشمشهم وزبيبهم في صناديق خشبية فواحة، حتى لكأن الروح تمتلئ دفئًا وطمأنينة لمجرد العبور بينهم.
وكانت مقاهي السوق الشهيرة أيضًا جزءًا من الحكاية؛ إنها مقاه شعبية بأبوابها الخشبية العريضة، وطاولاتها الرخامية، وكراسيها الخيزرانية المائلة، تنضح رائحة القهوة بالهيل فيها كأنها بخور العابرين إلى الماضي، وعلى جدرانها صور باهتة لزمن جميل، وفي زواياها رجال يتبادلون الحكايا والنوادر، بين دخان الأراكيل وقصائد يتداولونها بصوت رخيم، هنا تتعانق المرويات القديمة مع ضحك الأطفال المارّين، فيصير السوق ذاكرةً حية تنبض بالروح.

لم يكن السوق وحده ما يميز باب سريجة؛ بل إن الحي كله كان وما زال متحفًا مفتوحًا للبيوت الدمشقية العتيقة، تلك البيوت ذات الأحواش الداخلية، التي تتوسطها أشجار النارنج والليمون والياسمين، فيعلو منها عبير يسكر المارّين، لقد كانت أحواش البيوت بآبارها وسواقيها الصغيرة حدائق سحرية يستظل بها القلب، بينما تنتشر مقاعد الخيزران عند الأطراف كأنها دعوة دائمة للجلوس في كنف السكينة.
وفي هذا الحي، كان الناس يعرفون بعضهم بالاسم والكنية، فتسمع في الطرقات صباحًا نداء: أبو حسن! أم وليد! كأنهم عائلة واحدة كبيرة، لا يجمعها إلا حب الجيرة وماء المحبة الجاري في العروق، فلم يكن أحد يغلق بابه على جاره في الأفراح أو الأتراح، بل كانت الأبواب، كما الأرواح، مشرعة على الآخر، وفي الأعياد كانت الشرفات تزيَّن بالورود، وتفتح السفرة للجميع، فتمتد الموائد من بيت إلى بيت بلا استئذان، وفي المواسم كان الحي كله يحتفل كأنه بيت واحد يضجّ بالفرح.
كان باب سريجة سوقًا، لكنه لم يكن سوقًا للسلع فقط؛ بل سوقًا للود، وساحةً لتبادل الذكريات، وحلبةً لتدافع الحكايات، وحتى الأشياء الجامدة فيه كانت تتحرك على إيقاع قلب المدينة، كأن في النحاس حياة، وفي التين حكمة، وفي الياسمين قصيدة لم تكتمل.
هنا، بين الدكاكين وأفنية البيوت، كانت دمشق تتجلى بكامل بهائها؛ مدينة لا تُقاس بجدرانها وحدها، بل بقلوب ناسها التي تعرف كيف تُبقي الباب مفتوحًا لكل روح تبحث عن الدفء والانتماء.

الواقع الآن.. ذاكرة تنزف ببطء
اليوم، كأنّ باب سريجة ينزف خفية، كما ينزف قلب عجوز يخجل من أن يُظهر ألمه، فإن أزقته لم تعد كما كانت، والروح التي كانت تملأ حجارته انسحبت إلى زوايا مظلمة، تراقب ما يجري بحزن صامت، فلم يعد السوق كما عرفه الكبار؛ فالألوان خبت، والأصوات خفتت، والوجوه التي كانت تضيء المكان غابت إلى غير رجعة، حقبة الاستبداد والحرب الطاحنة بين النظام وشعبه كانت ثقيلة جدًّا؛ حملت على كتفي الحي أوزانًا فوق طاقته، وأطفأت كثيرًا من مصابيحه التي كانت، ولو خافتة، تبث الدفء في عتمة الأزمنة.
غادره كثيرون إلى ضواحي دمشق البعيدة، أو إلى المجهول، لا شيء سوى حقائب متعبة وقلوب مكسورة يتركونها وراءهم معلقة على الأبواب الخشبية، أما الدكاكين العتيقة التي كانت تشعّ حياة فقد أُقفلت واحدًا تلو الآخر، كأن السوق غفا على وجعه، مكتفيًا بهمهمة الذكريات، والحِرَف التي ورثتها الأجيال لم تعد تسمع وقع مطارقها ولا حفيف أنوالها، بل انكفأت على نفسها تنتظر يدًا رحيمة توقظها من سباتها الطويل.
ترهلت البنية التحتية مثل جسد أصابه الوهن، وتقطعت الكهرباء حتى صارت “اللمبات” في الدكاكين تلمع لمعة الكسالى، والماء صار شحيحًا حتى باتت الجرار البلاستيكية تصطف أمام الأبواب كطوابير الصبر الطويل، والأسعار ارتفعت حتى صار الخبز يثقل الجيوب أكثر من الذهب، والناس تعيش في معادلة قاسية؛ البقاء مقابل كل شيء.
الأطفال ما زالوا يلعبون، لكن ألعابهم لم تعد ألعابًا؛ صاروا يركضون بين ركام البيوت المتهالكة كأنهم يركضون على أشواك، ضحكاتهم ممزوجة بصوت الحجر المتكسر تحت أقدامهم، وكبار السن يجلسون على أبواب دكاكين نصف فارغة، يحدقون في الزمن كأنهم يحاولون أن يسترجعوا من الذاكرة ما فقدته المدينة من حياة، فعيونهم حائرة، وملامحهم غائرة، وأيديهم مستكينة في حضنهم كأوراق خريف ترفض أن تسقط.
بين كل جدار وآخر، قصة تهجير، وفقدان، وصمود رغم كل شيء، وحكايات مكتوبة بدمع ناشف وصبر متعب، لكنها لم تُروَ بعد، كأن الحي كله دفتر مفتوح على صفحات بيضاء تنتظر من يكتبها من جديد.
باب سريجة اليوم كجسد نُزِع منه نصف الروح، لكنه ما زال يتنفس، وما زال يصرّ على أن يبقى واقفًا، شاهقًا ولو متهالكًا، مثل سنديانة عجوز تعاند الريح لأنها تؤمن أن جذورها في الأرض أعمق من كل العواصف.

المعاناة.. وجع يوشك أن يغدو اعتيادًا
كأنّ باب سريجة اليوم يعيش وجعه بصمت وحياء، حتى صار الألم فيه أشبه بعادة قديمة، يوشك الناس أن يألفوها كما يألفون برد الشتاء أو غبار الصيف، فمشكلاته لم تعد مجرد طارئ عابر، بل صارت طبقة كثيفة تغلف روحه وتثقل أزقته، فالإهمال لا يبدو إهمالًا عابرًا من بلدية غافلة، بل أشبه بنسيان مقصود، كأن المكان طُوي من دفتر المدينة وترك يشيخ على رصيفه وحيدًا.
اندثار الحِرف التي كانت سر بقاء الحي ليس مجرد فقدان مهنة، بل انطفاء روح كاملة، فحرفة الغزل التي كانت تغزل معها صبر الناس، وحرفة النحاس التي كانت تُطرق معها كرامتهم، وحرفة السروج التي حملت معها حكايات الخيل والرجال؛ كلها تتلاشى كأغنية قديمة لا أحد يحفظ كلماتها بعد اليوم، ومع كل باب دكان موصد، ومع كل ورشة صامتة، يزداد قلب الحي ثقلًا وينكمش صوته أكثر.
أما البطالة، فهي أيضًا لم تعد رقمًا في تقرير، بل صارت وجوهًا شاحبة لشباب يجلسون على العتبات، بأيد مرتجفة وأحلام تتفتت تحت وقع الفقر والخذلان، شباب وُلدوا في الحي، وكبروا بين جدرانه، لكنهم اليوم غرباء فيه، يبحثون عن فرصة للبقاء فلا يجدون سوى الحيرة، أو يبحثون عن طريق للخروج فلا يجدون سوى ضياع أكبر.
البيوت القديمة التي كانت تحضن أهلها صارت بدورها بحاجة إلى من يحضنها، فجدرانها تتصدع، وأبوابها تئنّ، وأحواشها اليابسة تصرخ للعابرين أن أنقذوني من السقوط، ولم تعد الأحواش معطرة بالنارنج والياسمين، بل مريرة برائحة الرطوبة والانكسار، وكل بيت هنا يشبه شيخًا طاعنًا في السن، ينتظر من يمدّ إليه يد العون لينهض.

والأشد إيلامًا من كل ذلك، أن الروح الاجتماعية التي كانت تجعل الحي بيتًا كبيرًا للجميع بدأت تتفكك في صمت مرير؛ تلك الروح التي كانت تجمع الناس في الأعياد والمواسم والجنازات، أخذت تتلاشى مع الهجرات والفقدان، والأبواب التي كانت مشرعة للجيرة أُغلقت، والطرقات التي كانت صاخبة بالسلامات والنداءات غدت خرساء، وغدت أزقته أزقةً صامتة، وأرصفته مكلومة، كأن كل حجر فيها يبكي وحده.
ولكن الأكثر ألمًا من كل هذا أن الحي يعيش خطر أن يفقد ذاكرته، أن يمحى من سجل الذاكرة الجماعية كما تمحى الكلمات القديمة من الورق الأصفر، فالتاريخ لا يموت فجأة، بل يتفكك شيئًا فشيئًا، كما يتفكك نسيج هذا الحي الاجتماعي والإنساني، ذات يوم قد يصحو الناس ليجدوا أن باب سريجة لم يعد سوى اسم على لافتة باهتة، حي آخر في مدينة لم تعد كما كانت؛ بلا روح وبلا حكايات، وبلا ناس يعرفون بعضهم، وبلا أمل يشدّ الأزقة إلى قلب المدينة.
ولعل هذا هو الوجع الأكبر؛ أن يصبح الألم مألوفًا، والنسيان عادة، والانهيار قدرًا لا يفكر أحد في مقاومته، وأن يستيقظ الناس ذات صباح فيجدوا أن كل شيء صار عاديًّا حتى الموت البطيء.
ومع ذلك، ما يزال باب سريجة حيًّا، وما زالت فيه نساء يرششن الماء أمام أبوابهن كل صباح، وما زال بعض الحرفيين يفتحون دكاكينهم كل يوم كمن يوقد شمعة في وجه الظلام، ما زالت فيه أصوات أطفال تضحك، وشيوخ يرفعون أيديهم بالدعاء كل فجر أن تعود دمشق كما كانت بعد أنعم الله عليها بالتحرير من الاستبداد والطغيان.
باب سريجة ليس حيًّا فحسب، إنه إرث إنساني مقاوم، كأنه يقول لنا: إن المدينة، مهما انطفأت مصابيحها، سيبقى فيها دائمًا من يحمل الضياء ويقاوم الصمت.