مساء الثلاثاء، بتوقيت العاصمة واشنطن، سادت أجواء من الترقب الدولي بانتظار ما إذا كانت الولايات المتحدة ستُعلن انخراطها العسكري إلى جانب إسرائيل في الحرب التي بدأتها قبل أسبوع، مستهدفة منشآت نووية وعسكرية داخل الأراضي الإيرانية.
فالقائد الأعلى للجيش الأميركي الرئيس دونالد ترامب، عاد إلى واشنطن بعد مغادرته المفاجئة لقمة مجموعة السبع في كندا، ليعقد اجتماعا مغلقا مع فريقه للأمن القومي، غير أن الاجتماع لم يفضِ إلى إعلان أو تغيير ملموس في نهج الإدارة الأميركية تجاه الأزمة المتصاعدة في الشرق الأوسط.
وفي اليوم التالي، ترأس ترامب اجتماعا ثانيا في غرفة العمليات في البيت الأبيض، إلا أن الاجتماع انتهى أيضا دون قرار واضح، لتواصل واشنطن في إرسال إشارات متضاربة بشأن نيتها المشاركة في عملية “الأسد الصاعد”.
ضبابية في البيت الأبيض
مع انطلاق أولى الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع حيوية في العاصمة الإيرانية طهران، صرّح ترامب أنه طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “تأجيل توجيه ضربة لإيران”، بهدف منح واشنطن مزيدا من الوقت لدفع المسار الدبلوماسي، على أمل التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع طهران.
في الأيام التالية، نفي الرئيس الأميركي أي تورط مباشر لإدارته في الغارات، أو تقديم دعم عسكري لإسرائيل. لكن في الوقت نفسه أشار، إلى أن “إيران أُعطيت مهلة 60 يوما وقد انتهى الموعد”.
ومع تسارع العمليات العسكرية الإسرائيلية، أخذ خطاب ترامب منحى آخر اتسم بالتناقض، ففي إحدى التصريحات، وجّه ضغطا علنيا على القيادة الإيرانية وطالبها بـ”الاستسلام غير المشروط”، ومشيرا إلى أن المرشد الأعلى علي خامنئي “هدف سهل”، قبل أن يستدرك: “لن نقتله، على الأقل ليس الآن”.
واعتبر مراقبون هذا التصريح تحولا من موقف الرفض المبدئي للضربات إلى القبول الضمني بها وربما تشجيعها.
إعلان
لاحقا، طرح عليه الصحفيون سؤالا مباشرا حول احتمال قيام الولايات المتحدة بضرب إيران، فكان رده: “قد أقوم بذلك، وقد لا أفعل. لا أحد يعرف ما الذي سأفعله”، وهو ما تم تداوله في وسائل الإعلام بأنه إشارة إلى إبقاء جميع السيناريوهات مفتوحة.
ورغم تكرار محاولات الصحفيين استخلاص موقف واضح، حافظ ترامب على موقف حذر، قائلا: “أفضل اتخاذ القرار النهائي قبل موعده بثانية واحدة، خاصة في أوقات الحرب، حين تتأرجح الأمور بين طرفين متناقضين” مضيفا أن البعض لا يريد تدخلا أميركيا لكن من الممكن أن “نُجبَر على القتال لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي”.
وكان الرئيس الأميركي كتب منشورا على منصته “تروث سوشيال” رفع التوقعات بتدخل أميركي وشيك، حذر فيه الإيرانيين من البقاء في العاصمة طهران، داعيا إلى “إخلاء المدينة فورًا” دون تقديم توضيحات إضافية.
وبحسب ما أوردته شبكة “سي إن إن”، فإن إدارة ترامب كانت في تلك اللحظات تتابع عن كثب الاتصالات الواردة من إسرائيل بشأن خططها لتوسيع نطاق الهجمات. وتشير المصادر إلى أن تحذير ترامب قد استند إلى إشارات ميدانية محددة نقلها حلفاء واشنطن في تل أبيب، مما عزّز احتمالات التصعيد.
وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال يوم الأربعاء أن الرئيس ترامب أبلغ كبار مساعديه في وقت متأخر من يوم الثلاثاء أنه وافق على خطط هجوم على إيران، لكنه امتنع عن إصدار أمر نهائي لمعرفة ما إذا كانت طهران ستتخلى عن برنامجها النووي.
لماذا التردد؟
يسعى ترامب في ولايته الثانية لترسيخ صورته كزعيم يؤمن بالسلام، ويدرك أن الناخب الأميركي لا يرغب في حروب خاصة في مناطق لا تشكل تهديدا إستراتيجيا مباشرا للولايات المتحدة.
ويذهب محللون إلى أن التردد الظاهر في الموقف الأميركي يعكس صراعا داخل الدوائر المقربة لقائد الجيش. ففي حين يُحذر القادة العسكريون من الانجرار إلى صراع مفتوح مع إيران، ترى الدائرة السياسية المحيطة بترامب أن توجيه ضربات محدودة قد يكون كافيا لإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات، وفق شروط أميركية أكثر صرامة.
وتتباين مواقف صناع القرار في مبنى الكابيتول بين من يدعو إلى التروي في التدخل عسكريا، ومن يمارس ضغطا علنيا خاصة من أوساط اليمين المحافظ والجماعات المؤيدة لإسرائيل لدفع الرئيس نحو تدخل أوسع.
وكان المستشار السابق لترامب ستيف بانون قد حذر من أن أي انخراط عسكري مباشر في الشرق الأوسط سيقوّض القاعدة الشعبية لترامب التي تأسست على “وعود بإنهاء التورط الخارجي وتقييد الهجرة غير الشرعية، وتقليص العجز التجاري”.
وكتب نائب الرئيس جيه دي فانس على منصة “إكس” مدافعا عن موقف الرئيس قائلا إنه أظهر تركيزا واضحا على “حماية قواتنا ومواطنينا”، مضيفا أنه “رغم تباين الآراء حول التدخل الأميركي، يبقى القرار النهائي بيد ترامب. وهذا هو واقع الحال. ما يجري في ذهن ترامب لا يمكن لأحد توقعه”.
لكن تقريرا نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخرا، كشف أبعادا أخرى لموقف الإدارة الأميركية، فبحسب الصحيفة، كان ترامب مترددا في بداية الأمر، لرغبته في إدارة الملف الإيراني وفق أجندته الخاصة، وليس تبعا لأجندة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، رغم اطلاعه على تفاصيل الهجوم وخططه المستقبلية، بما في ذلك وجود قوات إسرائيلية سرية داخل الأراضي الإيرانية.
إعلان
وبحسب التقرير، لم يُقدّم ترامب أي التزامات مباشرة، لكنه قال لمساعديه في وقت لاحق: “أعتقد أننا قد نضطر إلى مساعدته” في إشارة إلى إمكانية دعم العملية إذا تصاعدت المواجهة.

مسارات ترامب
يجمع غالبية المراقبين للسياسات الأميركية أن مواقف ترامب في التعامل مع التصعيد الإيراني الإسرائيلي تسير ضمن 4 مسارات رئيسية، بعضها اتُّخذ بالفعل، بينما تبقى الأخرى مطروحة على طاولة القرار، وهي:
- الدعم غير المباشر: وهو المسار القائم والأقل كلفة سياسيا، إذ تُقدم واشنطن لإسرائيل دعما استخباريا وتسهيلات لوجستية، دون أن تنخرط بشكل مباشر في العمليات العسكرية الجارية.
- توجيه ضربة محدودة: يتضمن هذا الخيار تنفيذ عملية أميركية عسكرية تستهدف منشآت نووية أو بطاريات دفاع جوي إيرانية. يهدف إلى إرسال رسالة رادعة، دون الانزلاق إلى مواجهة.
- حملة جوية مشتركة: في هذا السيناريو، تنخرط الولايات المتحدة بشكل كامل إلى جانب إسرائيل في حملة جوية موسعة، قد تمتد أسابيع.
- المسار الدبلوماسي: وهو خيار لا يزال حاضرا في الداخل الأميركي، ويتضمن ممارسة ضغوط متزامنة على تل أبيب لتقليص نطاق هجماتها، وعلى طهران لاستئناف المفاوضات النووية.
ويرى محللون أن ضبابية الموقف الأميركي لا ترتبط فقط بقرار التدخل، بل تتعداه إلى طبيعة الأهداف المحتملة في حال حصوله. إذ تتراوح الخيارات المطروحة بين استهداف منشآت نووية، وتقليص قدرات إيران الاستخباراتية، أو توجيه ضربة رمزية لهيكل القيادة السياسية الإيرانية، قد تطال المرشد الأعلى الإيراني.
وأفادت تقارير إعلامية أميركية بأن الإدارة تدرس فعليا خيار الانضمام إلى العمليات الجوية، بما يشمل توجيه ضربة محتملة إلى منشأة فوردو النووية، إحدى أكثر المواقع الإيرانية تحصينا، مما يجعل استهدافها يتطلب قدرات جوية لا تملكها سوى الولايات المتحدة.
وفي وقت سابق، أفادت أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن منشأة التخصيب الإيرانية المدفونة على عمق كبير في فوردو، والتي تقع في عمق الجبل “لم تتضرر إلا قليلا أو لم تتضرر على الإطلاق”.
وذكرت رويترز أنه في حين أن فوردو لا تحتوي إلا على نحو ألفي جهاز طرد مركزي قيد التشغيل، فإنه ينتج الغالبية العظمى من اليورانيوم الإيراني المخصب بنسبة تصل إلى 60%، باستخدام عدد أجهزة الطرد المركزي نفسه تقريبا مثل نطنز، لأنه يغذي اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 20% في تلك الشلالات، مقارنة بنحو 5% في نطنز بحسب وكالة الأنباء.
إيران تلوّح بالرد
في العاصمة الإيرانية طهران، أحدثت التصريحات الملتبسة للرئيس ترامب حالة من الارتباك والقلق بين المواطنين، ودفعت السلطات إلى رفع درجة الاستنفار داخل منظومات الدفاع الجوي، وتعزيز الاستعدادات في مواقع إستراتيجية تحسّبا لأي تطور.
وهدد مسؤولون إيرانيون بالتلويح برد غير مباشر، مؤكدين استعداد بلادهم لاستهداف قواعد أميركية في المنطقة إذا ما قررت واشنطن الانخراط عسكريا في الهجمات التي تنفذها ضدهم.
ورغم أن اللهجة الإيرانية تعكس استعدادا لمواجهة محتملة، فإن طهران تبدو حذرة، فهناك من يرى أن واشنطن تتبع تكتيكا يقوم على دفع إسرائيل إلى تصعيد محسوب، في محاولة لاستفزاز إيران ودفعها إلى رد عنيف، يُوظف لاحقًا كمبرر لتدخل أميركي محدود لكنه حاسم.
وألقى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي خطابا متلفزا شنّ فيه هجوما على ترامب، وحذر من عواقب أي مغامرة عسكرية.
وقال خامنئي “على الأميركيين أن يدركوا أن أي تدخل عسكري سيُلحق ضررا لا يمكن إصلاحه”، مضيفا أن “الأمة الإيرانية لن تخضع للابتزاز، ولن تستسلم”.
إعلان
وفي سياق متصل، نقلت وكالة “رويترز” عن السفير الإيراني لدى الأمم المتحدة تأكيده أن طهران أبلغت واشنطن رسميا بأنها سترد “بكل حزم” إذا ثبت وجود تدخل مباشر في الحملة العسكرية الإسرائيلية.
كما صرح المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، لقناة الجزيرة الإنجليزية قائلا: “أي تدخل أميركي سيكون سببا لحرب شاملة في المنطقة، تخلف عواقب كارثية على المجتمع الدولي بأسره”.
وعلى الجانب الآخر، لا يتوقف نتنياهو عن توجيه رسائل متكررة إلى البيت الأبيض أن الولايات المتحدة وحدها من تملك القدرة الحاسمة على إنهاء البرنامج النووي الإيراني “بلا رجعة”.
ويقرأ مراقبون هذه التصريحات على أنها محاولة لإقناع إدارة ترامب بتجاوز التردد والانضمام إلى حربه على إيران.
ورغم الطبيعة الهجومية التي ميزت النهج الإسرائيلي في الملف الإيراني، فإن تل أبيب تتابع الموقف الأميركي بكثير من الحذر. فوفقا لتحليلات سياسية، تدرك القيادة الإسرائيلية أن المضي في تصعيد واسع من دون تنسيق واضح مع واشنطن قد يعرّض دعمها الدولي للخطر، ويقوّض شرعية حملتها العسكرية.