من دمشق إلى مكة المكرمة ، امتد طريق الحج الشامي عبر الصحراء، تمر فيه قوافل الحجاج والتجارة منذ دخول الإسلام إلى الشام عام 14هـ -635م، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914.
شكل الطريق معبرا رئيسا للجيوش الإسلامية، ومسارا تاريخيا عريقا للحجاج الشاميين، وعُرف باسم “التبوكية”، نسبة إلى بلدة تبوك، إحدى أهم محطاته.
مسار الحج الشامي
يمتد طريق الحج الشامي مسافة 1307 كيلومترات، عابرا ثلاث دول، بدءا من سوريا مرورا بالأردن وانتهاء بالمملكة العربية السعودية.
ينطلق درب الحجاج الشاميين من بلدة الكسوة الواقعة في ريف دمشق، ويمر بخان دنون، ثم منطقة غباغب فالصنمين والشيخ مسكين، وصولا إلى منطقة المزيريب على الحدود الأردنية، وينتهي مسار الطريق في سوريا بمدينة درعا، التي تُعد آخر محطة للحجاج في بلاد الشام.
بعدها يدخل الطريق الأراضي الأردنية من بلدة المفرق (خان المفرق)، ثم القسطل والحفير ومعان، حتى يصل إلى المدورة أو ما كانت تُعرف تاريخيا بـ”سرغ”، وهي آخر محطة على الجانب الأردني، وتقع جنوب محافظة معان، قرب الحدود السعودية.

وداخل السعودية يبدأ الطريق من مركز حالة عمار، وتُعرف بعلم عمودي يرتكز على قاعدة بيضاوية، ومنه يتجه الحجاج جنوبا نحو ذات حاج ثم إلى مدينة تبوك، التي تُعد من أبرز المحطات على الطريق، قبل أن يمروا بمحطة المعظم فالدار الحمراء ثم وادي الأخيضر.
يستمر المسار عبر الأقيرع فجبال الطاق (أبو طاقة)، ثم المبرك المعروف أيضا بمبرك الناقة أو الشق، ويليه الحجر أو مدائن صالح، ومن هناك يمر بالعلا فالقرح (وادي القرى)، حتى يصل إلى المدينة المنورة.
بعد ذلك يتجه الحجاج إلى مكة المكرمة، مرورا بالمابيات وبدر ثم جدة، التي تعتبر آخر وجهة قبل دخول مكة المكرمة، ويعبر طريق الحج الشامي أراضي سبع مدن سعودية هي: تبوك والعلا والمدينة المنورة وبدر ورابغ وجدة ومكة المكرمة.
وقد شكّل هذا الطريق عبر القرون أحد أهم المسارات التي سلكها الحجاج من بلاد الشام نحو الحجاز، وظل شاهدا على تواصل حضاري وروحي وثيق بين المناطق التي يمر بها، كما كان له دور بارز في ازدهار النشاط التجاري والثقافي على امتداده.
من قوافل الأمويين إلى قطار العثمانيين
اكتسب طريق الحج الشامي مكانة مميزة بعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الأموية، وانطلقت منها أولى قوافل الحج الرسمية المنظمة تحت إشراف الدولة الإسلامية، لتسهيل وصول الحجاج من خارج الجزيرة العربية.
اهتم الخلفاء الأمويون بإعداد الطريق وتجهيزه وحمايته، وتزويده بالمنارات والعلامات، مثل أميال الطرق التي أمر بها الخليفة عبد الملك بن مروان لتحديد المسافات وتوجيه السائرين.
كما جددوا مساجد ومحطات الطريق مثل مسجد الرسول في تبوك، وحفروا البرك والآبار والصهاريج والقنوات بين دمشق ومكة.
ورغم تراجع المكانة السياسية لدمشق، ظل الطريق محافظا على أهميته بفعل موقع دمشق الإستراتيجي التجاري.
وتبين الشواهد الأثرية أن مدن ومحطات الطريق في ذلك الوقت شهدت عناية عمرانية وخدمية ملحوظة، خاصة في منطقة وادي القرى مثل العلا وقرح والرحبة والسقيا.

في القرن 6هـ/ 12م عانى الطريق من تهديدات الصليبيين الذين هاجموا قوافل الحجاج انطلاقا من قلاعهم في الكرك والشوبك.
بعدها عاد الأمان والاستقرار بعد سيطرة الأيوبيين على بلاد الشام (570–658هـ / 1174–1260م)، إذ عمل صلاح الدين الأيوبي على حماية الطريق، وحاصر وأسقط قلعة الكرك سنة 584هـ / 1188م.
وكان من أبرز من خدموا طريق الحج الشامي في العصر الأيوبي الملك عيسى بن الملك العادل، أحد حكّام دمشق، وقد عُرف باهتمامه الكبير بالطريق، وتشير المصادر التاريخية إلى أنه سار بنفسه على طريق تبوك لمعاينته والوقوف على احتياجاته.
أمر العادل ببناء بركة المعظم الشهيرة، إلى جانب عدد من البرك الأخرى، كما وجّه إلى مسح الطريق بين دمشق وعرفات، وسعى إلى تسوية المناطق الوعرة لتسهيل مرور القوافل والحجاج.
نال الطريق اهتماما واسعا من حكام دمشق، وازدادت أعداد الحجاج، فقدّر بعض الرحالة في سنة 674هـ / 1286م عدد القافلة بستين ألف راحلة دون الخيل والبغال.
ساهمت سيطرة المماليك على مصر والشام والحجاز في تسهيل التحكم بالطريق، وإقامة مشاريع خدمية، كما تظهر نقوش مملوكية كثيرة على الطريق تشير إلى أعمال ترميم واسعة.
وبلغ طريق الحج الشامي ذروته في التطور والنشاط والمكانة، إذ أصبحت دمشق مركزا تجاريا وقبلة لقوافل الحجاج القادمين من أنحاء الدولة العثمانية.

ولقبت دمشق حينها رسميا بـ”شام شريف”، وأصبحت مركز انطلاق القافلة العثمانية الكبرى للحج.
اتخذ السلطان العثماني سليمان القانوني لقب “حامي الحرمين الشريفين”، واهتم بتأمين الطريق، فاختار دمشق نقطة تجمع الحجاج من الأناضول والشام والعراق وفارس والقوقاز وأوروبا.
شهدت دمشق نهضة معمارية، وكان من أولى منشآتها التكية السليمانية التي استقبلت الحجاج في مرج السلطان، وقدمت لهم خدمات الإقامة.
وكان سليمان القانوني (926–974هـ / 1520–1566م) أول من اهتم بالطريق من السلاطين العثمانيين، فأنشأ قلاعا وأرسل حاميات عسكرية لحماية الحجاج.
ومع ضعف السلطة المركزية في إسطنبول ، تراجع الاهتمام بالطريق وتدهورت أوضاعه، وخُرِّبت القلاع ونقصت الحاميات، وتلاعب الباشوات بالأموال المخصصة لحمايته. مما تسبب في نهب القوافل وأثر بشكل كبير على أمن الطريق وسلامة الحجاج.
وكان السلطان عبد الحميد الثاني آخر من اهتم رسميا بالطريق، إذ أرسل قافلة حج رسمية سنوية مجهزة تنطلق من دمشق، وتلتحق بها قوافل من الهند والصين وكردستان والقوقاز وفارس وأفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها.
وأبرز إنجازاته كان خط السكة الحديدية الحجازي، الذي امتد 1320 كيلومترا من دمشق إلى المدينة المنورة ، ونُفذ في ثماني سنوات ودُشّن في 22 رجب 1326هـ / 28 سبتمبر/أيلول 1908 م.
ووصل أول قطار من محطة الحجاز في دمشق إلى محطة العنبرية في المدينة المنورة في سبعة أيام فقط، مقارنة بـ50 إلى 55 يوما كانت تستغرقها الرحلة سابقا، والتي كانت تمتد أربعة أشهر ذهابا وإيابا.
آثار على الطريق
يُعد طريق الحج الشامي شاهدا حيا على تطور الحضارة الإسلامية واهتمام المسلمين المتواصل بخدمة الحجاج، إذ يضم على امتداده آثارا إسلامية باقية، من أبرزها عشرات النقوش التي تعود إلى القرن الأول الهجري، وكتابات تأسيسية على منشآت الطريق من قلاع وبرك وآبار.
وتشمل هذه الآثار قلعة ذات الحاج وقلعة تبوك وآثار الأخضر التي تضم مدينة إسلامية وثلاث برك وقلعة، إلى جانب آثار المعظم التي تحتوي على قلعة وبركة، وآثار البريكة المعروفة قديما بالدار الحمراء.
كما توجد على الطريق آثار الحجر والعلا التي تتبعها عدد من المرافق، إضافة إلى قلعة زمرد وقلعة الصورة وآثار هدية وإسطبل عنتر والفحلتين وآثار نصيف، وقلعة الحفيرة. وتوجد هذه القلاع والبرك على جزء الطريق الواقع في المملكة العربية السعودية.
ووجد على امتداد الطريق أيضا آثار سكة حديد الحجاز، التي تم تنفيذها بين عامي 1900 و1906م في عهد السلطان عبد الحميد، وتشمل محطات مبنية بالحجر وأجزاء من مسار السكة والجسور.
ويُعد أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعمارة عين تبوك في عام 17هـ من أوائل الجهود الخيرية في خدمة الحجاج.
ومن الآثار الأخرى الباقية: عين تبوك وبركة المعظم بين العلا والمدينة المنورة وقلعة المدورة وقلعة القطرانة.
وأكدت المسوحات الأثرية وجود منشآت متنوعة على الطريق مثل الآبار والبرك والعيون والقنوات المائية والقلاع والأبراج والجسور والمنارات إلى جانب آثار المدن والقرى التي ازدهرت قديما.
وهناك أيضا النقوش الكتابية التذكارية التي نقشها الحجاج قديما على الصخور، ما جعل الطريق شاهدا حيا على النشاط الحضاري والتجاري والديني الذي استمر أكثر من 13 قرنا.