الدبلوماسية البرلمانية.. نبض الأمة في معركة صون الوحدة الترابية

في زمنٍ تتقاطع فيه الجغرافيا بالمصالح، والسياسة بالإعلام، والدبلوماسية بالقوة الناعمة، لم تعد معارك الدفاع عن القضايا الوطنية تُخاض فقط في دهاليز الوزارات وخنادق المؤتمرات الرسمية، بل باتت تُخاض أيضاً تحت قبة البرلمانات، بصوت ممثلي الشعوب. هكذا برزت “الدبلوماسية البرلمانية” كواجهة حيوية، وذراع استراتيجي للمملكة المغربية في معركة صون وحدتها الترابية.

ويتجاوز مفهوم الدبلوماسية البرلمانية حدود البروتوكولات الرسمية، ليلامس جوهر التمثيل الشعبي. فالبرلماني، بوصفه منتخبًا من قبل المواطنين، يحمل معه شرعية فريدة تخاطب الضمير العالمي بشكل مباشر. إنه الجسر الذي يربط نبض الشارع بقرارات المؤسسات الدولية. وفي سياق قضية الوحدة الترابية، يكتسب هذا الدور أهمية قصوى، حيث يصبح البرلماني سفيرًا فوق العادة، مهمته تبيان الحقائق وتبديد الضباب الذي يحاول البعض فرضه.

تفيكك الحصرية

وفي خضم التحولات التي تشهدها مقاربة المغرب لقضية الصحراء، تبرز الدبلوماسية البرلمانية كأحد مسارات الفعل الدبلوماسي التي بدأت تأخذ موقعها تدريجياً في معادلة الدفاع عن الوحدة الترابية. هذا ما أكده الدكتور خالد الشيات، أستاذ القانون والعلاقات الدولية، مبرزاً أن طبيعة التعامل مع ملف الصحراء عرفت تحولات بنيوية في العقود الأخيرة.

ففي بداية الأمر، يشير الشيات، ظلت قضية الصحراء محصورة ضمن “منظومة ضيقة” من الفاعلين الرسميين، لما تقتضيه من عناية خاصة وحساسية بالغة. إذ كان تدبير الملف منحصراً بين المؤسسة الملكية، وبعض الأذرع الأمنية، ووزارة الداخلية، باعتبارها الجهات التي تمتلك أدوات التحكم في هذا الملف الاستراتيجي.

غير أن هذه الصورة بدأت تتغير مع مرور السنين، خاصة بعد أن أعلن الملك محمد السادس في افتتاح الدورة التشريعية الجمعة 11 أكتوبر 2024، أن قضية الصحراء هي قضية كل المغاربة، داعياً إلى انخراط الجميع، مؤسسات وأفراداً، في معركة الدفاع عن الوحدة الترابية.

هذا الإعلان الملكي، يوضح الشيات، في حديثه لجريدة مدار21″، ساهم في “تفكيك الحصرية” التي كانت تحيط بالملف، وفتح المجال أمام مزيد من المتدخلين، من ضمنهم البرلمان كمؤسسة دستورية تعبّر عن نبض الشعب، وتملك أدوات دبلوماسية مؤسساتية يمكن تفعيلها بفعالية.

ويؤكد الشيات أن الدبلوماسية البرلمانية باتت اليوم مطالبة بأن تقوم بدور أكبر وأكثر حضوراً في هذا المجال، مستفيدة من الآليات القانونية والتنظيمية التي تتيحها هياكل العمل البرلماني، مثل اللجان المشتركة ومجموعات الصداقة والبعثات البرلمانية واتحادات البرلمانات الإقليمية الدولية، سواء على المستوى الإفريقي أو العربي أو الدولي.

ويشدد أستاذ العلاقات الدولية على أن البرلمان المغربي، عقب خطاب العاهل المغربي الذي دعا فيه إلى إيلاء عناية خاصة لقضية الصحراء من قبل المؤسسة التشريعية، بدأ يُبدي تفاعلاً أكثر دينامية في هذا الاتجاه، معتبراً أن هذا الحراك يستلزم أيضاً انخراط الأحزاب السياسية الممثَّلة في البرلمان، بما تمتلكه من روابط خارجية وعلاقات حزبية دولية، تستطيع من خلالها التأثير والمرافعة في المنتديات العالمية.

ويرى الشيات أن تنوع المشارب الإيديولوجية داخل البرلمان المغربي، من إسلاميين ويساريين وليبراليين، يُعد عاملاً إيجابياً، لأنه يتيح نسج تحالفات حزبية دولية عبر قنوات غير حكومية، تفتح المجال لتقاطع المصالح والدفاع المشترك عن القضايا الوطنية، بعيداً عن منطق الخطاب الرسمي التقليدي.

أولوية الأولويات

رئيسة لجنة الخارجية بمجلس النواب المغربي، سلمى بعزيز، أكدت بدورها أن الدبلوماسية البرلمانية المغربية استطاعت خلال العقد الأخير أن تراكم زخما نوعيا في دفاعها عن قضية الصحراء المغربية، من خلال توسع نطاق الحضور والترافع في مختلف المحافل البرلمانية الدولية، وتعزيز التنسيق مع الدبلوماسية الرسمية، مع تثبيت حضور المؤسسة التشريعية المغربية في الفضاءات الدولية وتوسيع إشعاع مقاربة المملكة بشأن الوحدة الترابية.

وسجلت بعزيز أن الترافع البرلماني المغربي أصبح اليوم حاضرا في المؤسسات البرلمانية القارية والدولية، سواء في إفريقيا أو أوروبا أو أمريكا اللاتينية وآسيا، إلى جانب التجمعات الإقليمية لبرلمانات البحر الأبيض المتوسط. كما نبهت إلى أن الدينامية الحالية تستند إلى تكامل العمل بين الدبلوماسيتين الرسمية والبرلمانية، ما يمنح الأداء المشترك نوعا من الانسجام والفعالية.

وترى أن المشاركة المتواصلة للبرلمان المغربي ساهمت في تجنب سياسة الكرسي الفارغ، ومكّنت من استغلال الفضاءات الدولية لتثبيت الرؤية المغربية لقضية الوحدة الترابية، والتصدي لأي مغالطات قد تحاول بعض الأطراف تمريرها في هذه المنصات. وأضافت أن هذه الجهود دعمت بشكل واضح إيصال مقاربة المملكة، بقيادة الملك محمد السادس، القائمة على الشرعية التاريخية ومبادرة الحكم الذاتي، والتي باتت تحظى باعتراف دولي متزايد، كما تشير إلى ذلك تقارير دولية متعددة.

واعتبرت في تصريح لجريدة “مدار21” الإلكترونية أن من أبرز المحطات في هذا المسار الجيوسياسي، الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء في دجنبر 2020، الذي تلاه نشاط برلماني مكثف تمثل في استقبال وفود من الكونغرس الأمريكي، إلى جانب تحركات برلمانية مماثلة مع عدد من المؤسسات التشريعية الأخرى.

كما توقفت عند خطاب المسيرة الخضراء في نونبر 2022، الذي شدد فيه الملك على أن قضية الصحراء هي “النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، وهو ما كان له أثر مباشر على توجيه التحركات البرلمانية المغربية وربط الشراكات الدولية بموقف واضح ومبدئي من وحدة المغرب الترابية.

من بين المحطات الأخرى التي اعتبرتها بعزيز ذات رمزية بالغة، افتتاح ما يقرب من ثلاثين قنصلية بمدينة العيون والداخلة منذ 2019، مشيرة إلى أن البرلمان المغربي ساهم في مواكبة هذا المسار عبر بناء علاقات مع برلمانات الدول المعنية، واستقبال وفودها، إلى جانب المشاركة في أنشطة رسمية داخل الأقاليم الجنوبية.

كما شددت على أهمية الدور الذي تقوم به الشعب البرلمانية المغربية داخل المنتديات القارية، التي أصبحت فضاءات حيوية للترافع ومواجهة أي محاولات تمرير أطروحات انفصالية، مؤكدة أن البرلمان المغربي ساهم بدور ملموس في استعادة الزخم والدعم الإفريقي لمبادرة الحكم الذاتي.

وتحدثت أيضا عن خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون داخل قبة البرلمان المغربي، الذي تضمن تأكيدا واضحا على أن حاضر ومستقبل الصحراء المغربية تحت السيادة المغربية، معتبرة ذلك محطة مهمة في سياق الدعم الدولي المتزايد.

وفي سياق مواكبة الحركية اللاتينية، ذكّرت بعزيز باحتضان البرلمان المغربي في سنة 2024 لمنتدى “برلمان المستقبل” الذي نظمه البرلمان التشيلي لأول مرة خارج أراضيه، واختار المغرب كمكان لتنظيمه، في إشارة إلى متانة العلاقات مع برلمانات أمريكا اللاتينية.

كما أبرزت أهمية تأسيس منتدى رؤساء لجان الشؤون الخارجية بالبرلمانات الإفريقية، في فبراير 2025، والذي يترأسه المغرب، معتبرة أن هذه المبادرة تندرج ضمن الرؤية المغربية لبناء شراكات مؤسساتية إفريقية في ظل التحولات الجيوسياسية التي تعرفها القارة. وأضافت أن البرلمان المغربي استضاف أيضا منتدى رؤساء البرلمانات الإفريقية الأطلسية، في إطار تعزيز دور الرباط في الساحة القارية.

وفي تقييمها لما تبقى من التحديات، شددت بعزيز على أن الدبلوماسية البرلمانية المغربية، رغم ما حققته، لا تزال مطالبة بمواصلة العمل، مشيرة إلى أن استمرار ملف الصحراء داخل اللجنة الرابعة بالأمم المتحدة يفرض تحركا جماعيا من طرف جميع الفاعلين، بما يشمل المجتمع المدني والفاعلين في الدبلوماسية الموازية.

وشددت على ضرورة اعتماد رؤية استراتيجية لتعزيز أداء المؤسسة التشريعية في هذا المجال، مستلهمة في ذلك ما ورد في خطاب افتتاح الدورة البرلمانية 2024-2025، حيث دعا الملك إلى ضرورة التدقيق في اختيار الوفود البرلمانية نظرا لحجم المسؤولية.

وأكدت أن المطلوب اليوم هو تكوين مستمر وموجه للبرلمانيين والإداريين المرافقين، إلى جانب تأهيل النواب في مجالات القانون الدولي، والترافع متعدد اللغات، والتواصل السياسي الفعال، بما يضمن إيصال الرسائل بدقة وملاءمة حسب الفئة المستهدفة، لأن الخطاب لا يمكن أن يكون موحدا لجميع السياقات.

وتحدثت بعزيز عن أهمية تجاوز منطق ردود الأفعال، نحو اعتماد دبلوماسية المبادرة، من خلال عمل استباقي تواصلي منظم، معتبرة أن الدبلوماسية المغربية نجحت في هذا الإطار، لكنها تحتاج إلى مزيد من التكثيف، عبر تنظيم منتديات موضوعاتية داخل البرلمانات الدولية للتعريف بمبادرة الحكم الذاتي كنموذج لحل النزاعات، خاصة أن قضايا الانفصال أصبحت تؤرق عددا من الدول التي تبحث عن حلول ناجعة وسلمية لهذه المعضلة.

وسلطت الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجالية المغربية بالخارج في هذا المجال، من خلال فتح قنوات تعاون مع برلمانات الدول التي تعرف حضورا قويا لمغاربة العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا، مشيرة إلى أن هؤلاء يشكلون امتدادا حقيقيا للدبلوماسية الوطنية، وأن ترافعهم الميداني يمكن أن يُحدِث فارقا ملموسا.

واعتبرت أن التنسيق المؤسسي الفعّال يظل ركيزة أساسية في ضمان انسجام الرسائل الدبلوماسية، داعية إلى تفعيل آلية واضحة لهذا الغرض بين البرلمان ووزارة الخارجية، خصوصا في ما يتعلق بتبادل المعطيات الاستراتيجية التي تُبنى عليها مواقف الترافع، سواء في اللقاءات الثنائية أو متعددة الأطراف. وذكّرت في هذا السياق بخطاب العرش لسنة 2022، الذي أكد على أهمية التكامل بين الفاعلين المؤسساتيين في الدفاع عن المصالح العليا للوطن.

وختمت بعزيز تصريحها بالتأكيد على أن الدفاع عن الصحراء المغربية ليس فقط أولوية دبلوماسية، بل هو تعبير عن وعي جماعي مغربي، وانخراط مؤسساتي ذكي وطويل النفس، ينبني على رؤية ملكية تزاوج بين الحزم والانفتاح، وترتكز على أدوات تواصلية ومعرفية حديثة لمواكبة التحولات التي تعرفها الساحة الدولية.

استراتيجية موحدة ودول مستهدفة

يوافقها الرأي عبد الفتاح البلعمشي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة القاضي عياض بمراكش، مؤكدا أن الدبلوماسية البرلمانية باتت تمثل امتداداً للعمل الرسمي الذي يقوده الملك وصانع القرار في السياسة الخارجية، مضيفاً أن البرلمان المغربي، عبر مجلسيه النواب والمستشارين، يحمل مسؤوليات كبيرة في الدفاع عن الوحدة الترابية داخل المنتديات الدولية والثنائية بين البرلمانات.

ويرى البلعمشي هذا الدور البرلماني لا يقتصر على العمل المؤسسي فحسب، بل يمتد ليشمل المجموعات والأحزاب السياسية ذات الخلفيات الفكرية المتنوعة، التي لها امتداداتها عبر القارات، ما يتيح فرصاً لتقوية التضامن مع المغرب على المستويات الإيديولوجية والسياسية المتنوعة.

كما أشار المحلل السياسي ورئيس المركز المغربي للدبلوماسية الموازية وحوار الحضارات إلى أن الدبلوماسية البرلمانية تتيح تواجداً أوسع لشرح القضايا الوطنية، وتحديداً قضية الصحراء المغربية، في أوساط برلمانات دول مختلفة، من خلال نشاطات ميدانية وتنظيمية متعددة الأبعاد.

في هذا السياق، أكد البلعمشي أن المستقبل يتطلب توحيد جهود الدبلوماسية البرلمانية ضمن استراتيجية وطنية شاملة، قادرة على تنظيم العمل الموازي في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، مشيراً إلى تزايد وعي البرلمان المغربي بهذا الدور، وتجلي ذلك من خلال البرامج والمبادرات التي تبناها مكتب البرلمان في الآونة الأخيرة.

وأضاف أن الوقت قد حان لتبني استراتيجية موحدة للدبلوماسية البرلمانية، ترتكز على البحث العلمي والتكوين المستمر، بالتعاون مع الجامعات ومراكز الدراسات، بهدف تعزيز المهارات البرلمانية في مجالات الترافع الدولي وفهم الملفات الدقيقة التي تتطلب معطيات علمية دقيقة وتحليل معمق.

ولم يغفل البلعمشي الحديث عن الدور المحوري للملك محمد السادس، الذي اعتبر تعزيز انخراط المؤسسات الوطنية، بما فيها البرلمان، في الدفاع عن القضية الوطنية أمراً ذا أولوية قصوى.

وأكد أن خطاب الملك خلال افتتاح الدورة البرلمانية الأخيرة، والذي خصص موضوعه لقضية الصحراء، يؤكد على المكاسب التي يحققها المغرب دولياً وإقليمياً وقارياً، سواء من خلال الاعترافات المتزايدة بسيادة المغرب، أو من خلال تطوير النموذج التنموي في الأقاليم الجنوبية، وافتتاح قنصليات عامة، والقرارات الدولية الإيجابية في مجلس الأمن.

وختم بالتأكيد على أن الدبلوماسية البرلمانية والموازية مطالبة اليوم بتحمل المسؤولية كاملة، خاصة في ظل هذه المرحلة الدقيقة، لدعم المكاسب المحققة ومواكبة الملفات التي لا تزال تحتاج إلى جهود مستمرة، خصوصاً في الدول التي لم تعلن مواقف واضحة بشأن قضية الصحراء، فضلاً عن العمل في مجالات التعاون الاقتصادي والثقافي التي تعزز من موقع المغرب الدولي.

أرقام دالة

كشفت ورقة بحثية صادرة عن المعهد المغربي لتحليل السياسات أن موضوع الدبلوماسية البرلمانية غاب عن الخطب الملكية في افتتاح الدورات التشريعية للبرلمان طيلة تسع سنوات متتالية، قبل أن يعود للواجهة مجددًا في خطاب 11 أكتوبر 2024.

وإذا كانت الخطب الملكية تشكل توجيهًا أساسيا للعمل البرلماني، فإن تسجيل حضور موضوع الدبلوماسية البرلمانية في عشر خطب من أصل ستة وعشرين خطابًا، يؤكد مكانته كأداة مكملة للدبلوماسية الرسمية للمملكة.

وتُبرز البيانات المتعلقة بـ495 نشاطًا دبلوماسيًا نظمها مجلس النواب، أن مكتب المجلس، وعلى رأسه الرئيس ونوابه وأمينة المجلس، يتصدر قائمة الفاعلين الرئيسيين في هذا المجال، حيث يستأثر الرئيس وحده بنسبة 53% من إجمالي الأنشطة.

وباحتساب مساهمات نواب الرئيس وأمينة المجلس، ترتفع نسبة مساهمة مكتب المجلس إلى 73%، فيما توزعت النسبة المتبقية (27%) على باقي الفاعلين، من شعب وطنية دائمة، ولجان نيابية، ومجموعات الصداقة والأخوة.

أما من حيث التوزيع الجغرافي للأنشطة، فتشير المعطيات إلى أن الفضاء الأوروبي استحوذ على النصيب الأكبر بنسبة 31%، يليه الفضاء العربي الإسلامي بـ19%، ثم الأمريكيتان بـ15%، فالفضاء الإفريقي بـ14%. أما الفضاء الدولي فسجل نسبة 10%، يليه الآسيوي بـ6%، ثم الفرنكفوني بـ3%، وأخيرًا الفضاء المتوسطي بنسبة 2%.

وتؤكد الورقة البحثية ذاتها أن 69 نشاطًا دبلوماسيًا من مجموع الأنشطة المسجلة حتى نهاية يوليوز 2024، انطوى على مواقف داعمة للوحدة الترابية للمملكة، وهو ما يمثل نسبة 14%.

كما أظهر تحليل المعطيات أن 45% من هذه الأنشطة أفضت إلى مواقف أو قرارات لتعزيز أو مأسسة العلاقات الثنائية بين المغرب وشركائه من دول أو منظمات إقليمية ودولية، فيما خُصصت 25% من الأنشطة للتعريف بالإصلاحات والتجارب المغربية في مختلف المجالات.

وتتنوع الآليات والأدوات التي يعتمدها البرلمان المغربي في هذه المعركة الدبلوماسية. فالمشاركة الفعالة والمنتظمة في اجتماعات الاتحادات والمنتديات البرلمانية الإقليمية والدولية، مثل الاتحاد البرلماني العربي، والبرلمان الأورو متوسطي، والجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، توفر فرصًا ثمينة لعرض وجهة النظر المغربية والتأثير على القرارات والتوصيات الصادرة عن هذه الهيئات.

لوبي مجوعات الصداقة

ويرى محمد الغالي، أستاذ العلوم السياسية، أن الدبلوماسية البرلمانية تستمد خصوصيتها من طبيعة المؤسسة البرلمانية التي تجمع تحت سقفها مختلف التيارات الإيديولوجية، يمينية كانت أو يسارية، ما يجعل منها أرضية حيوية لصياغة علاقات دولية متعددة الروافد ومبنية على تنوع الرؤى.

وأوضح الغالي أن التوجه الإيديولوجي للبرلمانيين والأحزاب التي يمثلونها يلعبان دوراً أساسياً في هذا السياق، حيث يمكن من خلال الفرق البرلمانية والهياكل الرسمية نسج علاقات مثمرة مع برلمانات الدول الأخرى، وفتح قنوات للحوار والتعاون مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

وأشار إلى أن البرلمان، من خلال مهامه السياسية والدستورية، يساهم بشكل كبير في تعزيز أواصر الصداقة والتقارب بين الدول، وهو ما يعزز من حضور المغرب دولياً عبر قنوات غير تقليدية. وقال إن الدبلوماسية البرلمانية تشكل “فرصة ذهبية بامتياز”، داعياً إلى حسن استغلالها في إطار رؤية وطنية شاملة.

وفي معرض حديثه عن الآليات البرلمانية، سلط الغالي الضوء على الدور المحوري الذي تضطلع به مجموعات الصداقة البرلمانية، باعتبارها إحدى أدوات التشبيك السياسي والدبلوماسي الفعالة.

وأوضح أن هذه المجموعات تمثل نواة لتقارب أكثر نجاعة، وتُوظّف أحياناً كأدوات ضغط سياسي — تصل إلى مستوى “اللوبي” — للدفاع عن مصالح مشتركة داخل أو خارج البلدان المعنية.

وكمثال على ذلك، أشار إلى التجربة المغربية التي استطاعت من خلال البرلمان أن تنشئ شبكات قوية من مجموعات الصداقة مع برلمانات مؤثرة، مثل البرلمان الفرنسي أو الإسباني، وكذا مع عدد من برلمانات أمريكا اللاتينية. وقد أسهمت هذه الشبكات في تقريب وجهات النظر والدفاع عن المصالح الثنائية، مما يعكس نجاعة هذه الآلية في بناء دبلوماسية برلمانية فعالة.

لكن، ورغم هذه الدينامية، يؤكد الغالي أن هناك تحديات بنيوية لا بد من مواجهتها، وعلى رأسها مسألة الاستمرارية. “فالدبلوماسية البرلمانية تتأثر مباشرة بنتائج الانتخابات وتغير تركيبة البرلمانات، مما قد يؤدي إلى إرباك العلاقات القائمة أو إعاداتها إلى نقطة البداية”.

ويرى الغالي أن هذا التحدي يتطلب جهداً مضاعفاً لبناء الثقة وتثبيت أواصر التعاون بين البرلمانات، بغض النظر عن التغيرات السياسية الظرفية.

وأشار إلى أن معيار المصلحة يظل المحدد الأهم في استمرار أو تراجع هذه العلاقات، وهو ما يفرض على صناع القرار داخل المؤسسة البرلمانية أن يمتلكوا رؤية سياسية واقعية وقادرة على استيعاب المتغيرات، والتحكم في المخاطر التي قد تعصف بالعلاقات الثنائية أو متعددة الأطراف.

وشدد الغالي على أن نجاح الدبلوماسية البرلمانية يقتضي إدراكاً عميقاً لتقاطع الأدوار بين السياسي والدبلوماسي، واستغلالاً رشيداً للأدوات المتاحة، في أفق ترسيخ مكانة المغرب في المحافل الدولية من خلال مؤسسة البرلمان ومجموعاته التمثيلية.

تجربة عملية ومقترحات

ولا يمكن إغفال التحديات التي تواجه الدبلوماسية البرلمانية المغربية في هذا الملف الحاسم، لذا، يبرز جليًا ضرورة تطوير آليات عمل الدبلوماسية البرلمانية، وتعزيز التنسيق مع الدبلوماسية الرسمية، وتأهيل البرلمانيين بشكل أفضل في مجال الدبلوماسية الدولية، ليكونوا على أهبة الاستعداد لمواجهة مختلف التحديات.

وفي هذا الصدد، برؤية نابعة من تجربة عملية وأكاديمية، تؤكد ابتسام العزاوي، البرلمانية السابقة وعضو لجنة الشؤون الخارجية سابقاً، أن ملف الصحراء أصبح اليوم حاضراً بوضوح في أجندة العمل البرلماني الخارجي.

وتوضح أن تفاعل البرلمانيين المغاربة مع هذا الملف عرف تحوّلاً نوعياً، إذ انتقل من الحضور المناسباتي إلى مبادرات منتظمة وفعّالة في المحافل الإقليمية والدولية، خصوصاً بإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وتستند العزاوي في تقييمها إلى تجربتها البرلمانية، وإلى أطروحتها الأكاديمية التي تناولت موضوع الدبلوماسية البرلمانية في إفريقيا، وتشير إلى أن البرلمان المغربي بات يزخر بكفاءات سياسية تمتلك وعياً حقيقياً بآليات الترافع، وتُجيد التواصل مع نظرائها في برلمانات العالم، ما أضفى بعداً احترافياً على العمل البرلماني الدولي.

وتوضح أن هذا النضج البرلماني انعكس في توسع شبكة الشراكات الثنائية والمتعددة الأطراف، وفي توقيع مذكرات تفاهم، وإنشاء مجموعات صداقة برلمانية، وتنظيم زيارات ميدانية إلى الأقاليم الجنوبية، ما أتاح نقل الرواية المغربية إلى دوائر صنع القرار الدولية، وفنّد الأطروحات الانفصالية بالوقائع والمعطيات.

وفق العزاوي، يشهد الأداء البرلماني تحولاً جذرياً من منطق الدفاع ورد الفعل إلى منطق المبادرة والتأثير. فالبرلماني المغربي اليوم لم يعد يكتفي بتكرار الخطاب الرسمي، بل يطور خطاباً براغماتياً قائماً على الحجة القانونية، والنموذج التنموي الملموس، وشهادات ممثلي الساكنة المحلية، مما يضفي مصداقية قوية على الموقف المغربي.

لكن رغم هذا الزخم، تؤكد العزاوي أن تفعيل الدبلوماسية البرلمانية بشكل أمثل يقتضي اعتماد مقاربة شمولية ترتكز على عدة جوانب متكاملة. أولاً، هناك حاجة ملحّة لتوفير برامج تكوين مستمرة ومهنية، تمكّن البرلمانيين من اكتساب مهارات تحليل السياسات الخارجية وتقنيات الترافع السياسي والقانوني، إلى جانب إتقان اللغات الأجنبية التي باتت ضرورية للتواصل الدولي الفعّال.

وهذا يتطلب، بحسب العزاوي، تعاوناً مع مؤسسات أكاديمية ودبلوماسية متخصصة لتطوير برامج تدريبية شاملة تتضمن محاكاة للمفاوضات الدولية ودراسة السوابق القانونية، إضافة إلى تدريب عملي على التواصل مع وسائل الإعلام الدولية.

واعتبرت أنه من الضروري إنشاء إطار مؤسساتي دائم داخل البرلمان، يُعنى بتنظيم وتنسيق العمل الدبلوماسي البرلماني بشكل محكم. “هذا الإطار سيكون مسؤولاً عن توحيد الخطاب الرسمي وإعداد الملفات المرجعية، إضافة إلى دعم البرلمانيين خلال مهامهم الدولية، والعمل بتنسيق وثيق مع وزارة الشؤون الخارجية، ما يعزز التكامل بين مختلف المؤسسات المعنية ويضمن استراتيجية متكاملة للدفاع عن مواقف المملكة”.

لتكثيف أثر الدبلوماسية البرلمانية على الساحة الدولية، ترى أنه يجب تطوير استراتيجية تواصل إعلامي متقدمة تركز على إنتاج محتوى رقمي ولوجستي بلغات متعددة يعكس النموذج التنموي المغربي في الأقاليم الجنوبية.

ويشمل ذلك، بحسب ما جاء على لسان العزاوي، استخدام منصات التواصل الاجتماعي الحديثة والمنصات البرلمانية الدولية، مدعومة ببيانات وإحصائيات تنموية دقيقة تعزز من قوة الرسائل الموجهة للرأي العام العالمي، وترسخ المصداقية وتعزز التأييد لقضية المغرب الوطنية.

ولا تتردد العزاوي في التأكيد على أن الدبلوماسية البرلمانية باتت اليوم شريكاً حقيقياً للدبلوماسية الرسمية، وهو ما يعكسه التوجيه الملكي المستمر بضرورة انخراط كل مؤسسات الدولة في الدفاع عن القضايا الوطنية، وفي طليعتها قضية الصحراء.

لغة التأثير

التجربة المغربية في مجال الدبلوماسية البرلمانية أتبتث إذن أن هذه الآلية ليست مجرد امتداد للسياسة الخارجية الرسمية، بل شريكا فاعلا ومكمّلا لها في الدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية.

فمن خلال تحركات أعضاء البرلمان في مختلف المحافل الإقليمية والدولية، وحضورهم الفاعل في النقاشات والقرارات، نجحت المؤسسة التشريعية في نقل صوت المغرب إلى دوائر القرار، وتفنيد الادعاءات المغرضة، وبناء شبكات دعم واسعة ومتعددة.

ورغم ما تحقق من مكاسب، فإن التحديات لا تزال قائمة، وتستوجب المزيد من التنسيق، والتأهيل، واليقظة الاستراتيجية. فالدبلوماسية البرلمانية، بحكم طبيعتها التراكمية، تحتاج إلى رؤية بعيدة المدى، وإلى تعبئة جماعية، تجعل من كل نائب سفيرًا لقضية وطن، في عالم لا يعترف إلا بمن يُتقن لغة التأثير.

عن أسيل الشهواني

Check Also

قيادات “الأحرار” تثمن المُنجَز الحكومي وتؤكد: لا نتسابق مع أحد

أجمعت قيادات حزب التجمع الوطني للأحرار على الأثر الإيجابي للمنجز الحكومي خلال ما مر من …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *