منطقة تُفكّر رقمياً: الإمارات تكتب نموذجاً إقليميًا للابتكار

 

دبي – خاص

استثمارات الذكاء الاصطناعي لم تعد مجرد صفقات، بل أدوات لإعادة تعريف النموذج التنموي

بقلم : حسام محسنة – خبير تقني وقائد مجتمعات تكنولوجية

في زمن تُقاس فيه المكانة العالمية بقدرة الدول على بناء اقتصاد رقمي متكامل، تتحرك دولة الإمارات بثبات لتعيد صياغة العلاقة بين التقنية والتنمية. ما نعيشه اليوم، من الإعلان عن استثمارات استراتيجية في مراكز البيانات والذكاء الاصطناعي، إلى تفعيل شراكات معرفية ومؤسساتية متقدمة، ليس مجرد تسارع تقني، بل تحوّل في طريقة تفكيرنا كمنظومة حول التكنولوجيا، والسيادة، وصناعة المستقبل. لم تعد مراكز البيانات مجرد بنى تحتية، بل باتت مساحات تفكير، ونقاط ارتكاز لرؤية رقمية تسعى إلى إنتاج نموذج مستقل في إدارة التقنية وتوجيهها بما يخدم المصالح الوطنية والتنموية في آن واحد.

من الحوسبة إلى التفكير السيادي

في بيئة تشهد سباقًا دوليًا لامتلاك أدوات الذكاء الاصطناعي، أصبحت البنية التحتية الرقمية في الإمارات عنصرًا سياديًا لا يُترك للظروف أو الخارج. القدرات الحاسوبية الضخمة، وتوزيع مراكز البيانات، والاستثمار في طاقة المعالجة، كلها تعكس إدراكًا بأن الاستقلال الرقمي لم يعد ترفًا، بل ضرورة استراتيجية لضمان الاستقرار الاقتصادي والمعرفي، وتعزيز القدرة على اتخاذ القرار التقني من الداخل.

ما نراه على الأرض يتجاوز استيراد أنظمة أو توقيع عقود. كل شراكة دولية مرتبطة ببرامج توطين للمعرفة، وبناء قدرات محلية تُمكّن العقول من فهم التقنية وتوجيهها بما يتماشى مع السياق المحلي. النموذج لا يقوم على استهلاك الابتكارات، بل على إنتاجها. على تطوير قدرات بشرية تقرأ التقنية من زوايا اقتصادية، اجتماعية، وأخلاقية، وليس فقط من منظور تقني.

شراكات مفتوحة بشروط محلية

في خضم التحديات الجيوسياسية والتكنولوجية، لا تكتفي الإمارات بالانفتاح، بل تضبطه. الشراكات تُبنى وفق شروط تضمن القيمة المحلية، وتربط الاستثمار الأجنبي بالمردود التنموي. كل مشروع جديد يُقيّم بمدى مساهمته في دعم الشركات الناشئة، نقل المعرفة، وتطوير البنية المؤسسية، وليس فقط بحجمه المالي أو تقنيته الحديثة.

العقول أولاً: المورد الأكثر استراتيجية

التحول اللافت في المرحلة الحالية هو أن العقول باتت في مركز التخطيط. لا حديث عن بنية تحتية دون كوادر تمتلك الفهم، وتملك القرار.ما نشارك فيه اليوم هو إعادة تعريف للبيئة الحاضنة للمواهب. من برامج التعلم والتجريب، إلى المشاريع التي تربط البحث بالتطبيق، تتشكل بيئة محفزة تجذب المبدعين وتُطلق قدراتهم. هذه ليست فقط دعوة للمواهب العالمية، بل مشروع لبناء اقتصاد مستدام من الداخل، تقوده كفاءات محلية قادرة على المنافسة عالميًا.

الإمارات كمنصة للتفكير والابتكار الإقليمي

بفضل موقعها الجغرافي، ومرونتها التشريعية، ورؤيتها الاستباقية، أصبحت الإمارات نقطة تفاعل حقيقية بين الأفكار والتطبيق. لم نعد فقط مستهلكين للتقنية، بل مساهمين في صياغة نماذج عمل جديدة، تتفاعل مع التحديات الإقليمية في الصحة، والتعليم، والطاقة، والاستدامة. تتوسع اليوم مجالات التأثير من المعامل والمختبرات، إلى السياسات والمؤسسات، في نموذج يوازن بين الطموح المحلي والتكامل الإقليمي.

الخلاصة: الاستثمار في العقول هو الاستثمار السيادي الحقيقي

ما تشهده الإمارات ليس مجرد قفزة رقمية، بل مشروع وطني يُعيد تعريف السيادة من منظور معرفي. القوة لا تُقاس بامتلاك الأدوات فقط، بل بالقدرة على توجيهها، ابتكار استخدامها، وتسخيرها في خدمة التنمية. وفيما تتركّز الأنظار على مراكز البيانات والقدرات الحاسوبية، يبقى الرهان الحقيقي على العقول التي تفكر، وتبتكر، وتقود.

الكاتب : حسام محسنة – خبير تقني وقائد مجتمعات تكنولوجية

يساهم حسام محسنة في بناء منظومات تقنية وتنموية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا عبر قيادة مبادرات نوعية لتمكين المطورين ورواد الأعمال. عمل على تنشيط الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وقاد برامج إقليمية استراتيجية مع شركات عالمية مثل مايكروسوفت. يركز على دعم التحول الرقمي وتعزيز التعليم التقني، مع اهتمام خاص ببناء القدرات المحلية وتحفيز الابتكار المستدام.

عن آمنة البوعناني

Check Also

شراكة استراتيجية بين “جي 42″ و”ميسترال إيه آي” لتأسيس الجيل التالي من البنى التحتية ومنصات الذكاء الاصطناعي

    باريس، 20 مايو 2025 –أعلنت مجموعة “جي 42“، الشركة العالمية في مجال التكنولوجيا …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *