“العملية تهدف إلى نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية منها، وحماية السكان الناطقين بالروسية في دونباس من الإبادة الجماعية”
- الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب إطلاق العملية العسكرية ضد أوكرانيا
بعد نجاحه في الوصول لرئاسة الإمبراطورية السوفياتية الممتدة، لم يكن جوزيف ستالين معجبا كثيرا بأقرانه السابقين، خصوصا أولئك الذين لم يظهروا له علامات الولاء والخضوع، وآثروا الحفاظ على أفكارهم الخاصة، وأحيانا جهروا بمعارضتهم للزعيم أو التحفظ على قراراته التي لم تكن حكيمة أحيانا، أو غالبا، ولم يؤثروا السلامة.
مع الوقت، عمد ستالين إلى تغييب وإخفاء بعض أصدقاء الأمس، بمن فيهم من عملوا تحت إمرته بدوافع عديدة، مثل الخوف من الخيانة، أو الخوف من تصاعد شعبيتهم، وفي زمن لم يكن فيه الإنسان قد وصل إلى “الفوتوشوب” ولا إلى “الذكاء الاصطناعي”، كان ستالين يرمي بهؤلاء إلى أبعد نقطة في بئر النسيان وأقبية الموت أو في صحاري سيبيريا.
وليس ذلك فحسب، بل كان يخفي آثار معارضيه تماما من الأرشيف السياسي للدولة، ويعدل الصور التي التقطت له معهم، فلم يبق في الصور سواه، بعد أن كانت تلك الصور تعج بالرفاق.
يتكرر هذا السلوك الآن على الحقيقة في الصور التي يلتقطها الزعماء الغربيون احتفالا بذكرى انتصاراتهم السابقة على النازيين في الحرب العالمية الثانية، يصطف الرئيس الفرنسي بجانب رئيس الحكومة البريطاني يتزعمهم الرئيس الأميركي ويغيب ممثل روسيا، حليف الأمس، الذي تمكن من إلحاق أولى الهزائم الكبيرة بالنازيين، ثم الأغرب، وللسخرية التاريخية، يحضر المستشار الألماني الذي كانت بلاده هي الخصم والعدو اللدود في الحرب الغابرة.
تحالف السنوات الغابرة
يأتي الاحتفال بيوم النصر في الحرب العالمية الثانية هذه السنة في ظروف مختلفة. فقد اشتد عداء الغربيين لروسيا منذ 24 فبراير/شباط 2022، اليوم الذي قررت فيه اجتياح أوكرانيا، حيث لا تزال الحرب مشتعلة حتى اليوم.
وهذه سيرة الدول كما نعرفها، تحب بعضها هونا، وتكره بعضها هونا، تترك دائما لنفسها مكانا يجري منه الماء إن كان هنالك داع لذلك. لكن في أثناء اشتداد الخصومة أو الوئام، قد يبدو الأمر متطرفا وأن لا سبيل لتغييره يوما ما. يظهر العداء أعمى، وإن لم يكن بذلك السواد، وتصفو المحبة وردية اللون، وإن كان يشوبها الكثير من الود المصطنع.
بعبقرية في روايته 1984 يصف لنا جورج أورويل ذلك، يتحدث عن الدول الثلاث، أوقيانيا (حيث كان يعيش وينستون سميث، الشخصية الرئيسية للرواية) ثم أوراسيا وأخيرا إيستاسيا. يتذكر بطل الرواية كيف أن بلاده كانت تعادي أوراسيا، وتشحن مواطنيها، يصرخون في كل مكان بأن أوراسيا هي العدو الأبدي والأزلي وأن إيستاسيا هي الحليف الذي كان كذلك دائما، وسيظل. ثم ماذا يحدث؟ نفس المشهد، تختلف المواقع، إيستاسيا هي الآن العدو، كانت كذلك وستظل، أما أوراسيا فهي الحليف والحبيب، هكذا عرفها الناس وهكذا ستبقى!
في الحياة الواقعية، كان الغربيون يشعرون بوحدة المصير ووحدة الخطر عندما كانت جيوش هتلر تتوجه نحو موسكو بعد أن أسقط عواصم أوروبية أخرى على رأسها باريس. لذلك كانوا ممتنين جدا لاستبسال السوفيات ولجليد روسيا الذي كان أحد أسباب بداية النهاية لحلم النازيين بالرايخ الثالث. لكنهم اليوم، لا ينظرون للروس، حفدة السوفيات إلا كما نظروا يوما ما للنازيين، ذلك الخطر الداهم الذي يوشك أن يهدد أوروبا كلها.

على كل حال، تقول القصة التي لا يمكن الاختلاف كثيرا على تفاصيلها العامة أنه في يوم 2 مايو/أيار عام 1945عندما تمكن السوفيات من دحر القوات الألمانية، حينها بدأ حلم هتلر يتحول إلى أسوأ كوابيسه وأكثرها قتامة.
5 أيام فقط بعد ذلك؛ أي في اليوم السابع من الشهر نفسه، بمدينة رانس، كان الجنرال الأميركي دوايت أيزنهاور يقود قوات الحلفاء من أجل القضاء على آخر نقاط تواجد الألمان، وفي اليوم التالي، 8 مايو/أيار قرابة الساعة 23:01 قبل منتصف الليل، انتهت المعارك. لا هتلر بعد اليوم، ولا نازيين بعد اللحظة.
وقّعت قيادة القوات الألمانية في عين الساعة والتوقيت وثيقة الاستسلام بحضور ممثلي الدول المنتصرة، فرنسا وبريطانيا، ثم الحصان الأبيض، الولايات المتحدة الأميركية، والحصان الأسود، الاتحاد السوفياتي. انتهت الحرب رسميا في أوروبا، وبقيت فقط في آسيا، مع اليابان، قبل أن تنهيها القنبلة النووية في هيروشيما وناكازاكي لاحقا.
لا يشبه الأمس اليوم، تغيرت المقاعد، فرنسا كانت عدوة لألمانيا، لكنهما الآن حليفان لا ينفكان، بينما روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي البائد، باتت عدوا كبيرا، وخطرا عظيما. قبل سنة من كتابة هذا المقال، وفي ذكرى احتفال الحلفاء، وقف قادة التشكّل الجديد للغرب في مشهد لا يروي القصة التاريخية بالدقة اللازمة. يظهر احتفال المسؤولين الغربيين بهذا اليوم، بصوره الأيقونية كأن الروس لم يشاركوا في أهم حدث عرفه التاريخ الغربي الحديث.
والمفارقة التاريخية، أنه منذ العام 1942، كان الاتحاد السوفياتي يطالب الحلفاء الغربيين بفتح جبهة قتال ضد الألمان في أوروبا بيد أن صوت السوفيات لم يكن كافيا ولا مقنعا. ففي الوقت الذي كانت فيه جيوش ستالين تدفع الهجوم الألماني عن أراضيها، كانت واشنطن تكتفي بإرسال المساعدات العسكرية، وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تكتفي بمواجهة الألمان في بعض الجبهات الثانوية في البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1943، سيقبل تشرشل أخيرا على فتح الجبهة الغربية، بعد ضغط كبير من جوزيف ستالين وفرانكلين روزفلت. في الفترة نفسها كان السوفيات يسطرون الملاحم ضد النازيين مغيرين موازين القوى شيئا فشيئا بعد معارك ستالينغراد وكورسك، صحيح أن غزو نورماندي كان قد خفف الضغط على الجبهة الشرقية لكنه كان أقل أهمية من الجهد الكبير الذي كان يقوم به السوفيات.
نخبك يا غريمي.. لقاء تشرشل وستالين
الكثير من الحرص والقليل من الود الحقيقي ربما، البراغماتي بالتأكيد، هكذا كانت العلاقة بين غرب أوروبا وشرقها.
كان مساء 12 أغسطس/آب 1942 في موسكو باردا، تماما كبرودة الأجواء والعلاقات بين جوزيف ستالين وونستون تشرشل. كل الأجواء ببرودتها وفتورها مناسبة ليحضر فيها الخمر الروسي، كأس، فثانٍ ثم ثالث، لم تكن الزجاجات التي يفتحها ستالين تدوم طويلا.
انتهى اللقاء في الساعة الثالثة صباحا، حينها قال رئيس الوزراء البريطاني إنه فارق ستالين في أفضل الأجواء، وإنه إن كان بإمكانهما تناول وجبة العشاء معا مرة واحدة في الأسبوع، لاختفت جميع المشاكل.
في 1940، قبل سنتين فقط من هذا اللقاء الشاعري الذي لعبت فيه الخمر بالرؤوس، لم يكن هتلر يرى في أوروبا سوى زعيم قوي واحد، هو تشرشل، لكنه بعد أن قرر اجتياح روسيا، أدرك أن فيها زعيمين، ستالين هو الثاني. كان الرجلان يملكان جميع الأسباب الذاتية والموضوعية للقطع بالعداء لبعضهما البعض، لكنهما على اختلافهما العظيم، علما أن الاتفاق هو الذي سينقذ الاثنين معا، وأن أي قرار آخر سيكون أخرق بلا شك، وسيشكل هدية لا أثمن منها لهتلر.
وفي يونيو/حزيران 1941، كان هتلر قد قرر شق الجليد الروسي والتوغل في مقبرة نابليون بونابارت لتنفيذ عملية “بارباروسا”، كانت الخسائر فادحة، الروس يقاتلون وحدهم ضد الألمان، وتشرشل يفكر مستمتعا بنوع من الراحة بينما يشعر ستالين بعزلة قاتلة.
جرب تشرشل شعور العزلة قبل ذلك، ففي الوقت الذي كانت تنهار فيه القوات الفرنسية الحليفة في يونيو/حزيران 1940، شكك الكثيرون في بريطانيا، وفي قدرتها الحقيقية على مقاومة النازيين المتعطشين للتوسع. في تلك اللحظة المفصلية.
كان ستالين مطمئنا لأنه كان يعتقد، أو هكذا أراد، أن هتلر سيلتزم معه بالاتفاق الذي عقداه سويا، ليس هذا فحسب، فقد استفاد السوفيات من ذلك الاتفاق للهجوم على فنلندا في نهاية العام 1939.
لم يلتفت رئيس الوزراء البريطاني إلى الماضي المؤلم، فقد تناسى خيانة ستالين، وتناسى غضبه منه عندما حذره بمعلومات مؤكدة وكتب له شخصيا يخبره بأن النازيين يستعدون لغزو الاتحاد السوفياتي، لم يرغب ستالين حينها في تصديق حليفه المستقبلي البريطاني، وانعزل مبتعدا ومتمسكا بوعد من الفوهرر.
تناسى تشرشل كل ذلك، وكتب في السابع من يوليو/تموز 1941 لستالين رسالة مفادها أن الجميع سعداء لرؤية الجيش الروسي يقاوم الغزو النازي غير المبرر وغير الرحيم، وأن بريطانيا وحلفاءها سيقومون بجميع المجهودات التي تسمح بها الموارد والوقت.
في الرسالة نفسها، أضاف رئيس الوزراء البريطاني أنه يحاول إجبار هتلر على تحويل بعض قوته الجوية نحو الغرب لتقليل الضغط الذي يمارسه شرقا على الاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى ذلك، طلب تشرشل من البحرية البريطانية تحضير عملية في القطب الشمالي حتى يسهم ذلك في تعزيز التواصل بين القوات البحرية البريطانية والسوفياتية.
لم يكن الشك يساور تشرشل بأن ستالين سيجد كل هذه الأمور غير كافية، وهو ما حدث بالفعل، في 18 يوليو/تموز، طلب الزعيم السوفياتي من تشرشل فتح جبهة ثانية. طلبٌ سيتكرر لاحقا مرات ومرات، فقد كان ستالين يدرك أن لا شيء سيخفف من الضغط النازي عليه سوى فتح جبهة في شمال فرنسا وفي شمال القطب الشمالي، ذلك لأن جبهة شمالي فرنسا ستحقق هدفين، أولهما تخفيف الضغط على القوات الروسية، كما أنها ستمنع أي غزو لبريطانيا.
دخلت الحرب العام 1942 دون أن يفتح البريطانيون الجبهة الغربية، لكن أميركا كانت قد دخلت على خط الحرب منذ أقل من عام. كان روزفلت أكثر جدية في دعم الاتحاد السوفياتي من تشرشل، إذ لم يكتف بتقديم الدعم اللوجستي لموسكو، بل بدأ جنوده يشاركون في الحرب في عدد من المناطق، خصوصا في المغرب العربي، حيث شن الأميركيون هجوما بالتعاون مع البريطانيين على المغرب والجزائر.
كان الألمان يرغبون في التوسع في البلدين مستغلين عداء الشعوب هناك للمستعمر الفرنسي، كما شاركت القوات الأميركية في “تحرير” تونس من “الاحتلال” الألماني، وإن كان ستالين كثير التذمر من طول المعركة التي دامت 6 أشهر في بلد صغير مثل تونس.
في 26 يناير/كانون الثاني 1943، وصلت إلى ستالين رسالة من تشرشل تخبره بأن البريطانيين أجروا محادثات مع مستشاريهم العسكريين، وقرروا أن هناك عملية عسكرية سوف تنفذ بالشراكة مع الأميركيين خلال الأشهر التسعة الأولى من العام نفسه. بعد تلك الرسالة سيقرر تشرشل تأجيل العملية لشهر سبتمبر/أيلول لعدد من الأسباب من بينها الطقس السيئ.
جاء وقع الخبر على ستالين أسوأ من الطقس الذي يخافه تشرشل، لأن الزعيم السوفياتي كان ينتظر أن تُفتح الجبهة الثانية خلال صيف العام 1943، لأنه رغم الهزائم التي تكبدها النازيون، حسب المعلومات المطروحة، فقد كانوا يستعدون لتجديد هجومهم في الصيف الثالث، فجدد ستالين طلبه فتح الجبهة في وقت أسرع مما يطرحه حلفاؤه.
بيد أن روزفلت كانت له أولويات أخرى، كما أنه تأخر في إرسال رجاله. هكذا سيخبر تشرشل الرجل الذي تناول معه عشاء سعيدا ذات يوم، جوزيف ستالين.
ليس هناك من داع للحديث عما حدث بعد ذلك، فتح الغربيون الجبهة الشمالية، وهزم الطقس والسوفيات هتلر، وانتهت الحرب، وانقسم العالم مكتسيا ببرودة الصقيع، لتندلع حرب أخرى باردة بين معسكرين: شرقي يقوده السوفيات، وغربي تتزعمه أميركا ومعها أوروبا.
سيف الحنين للماضي يغذي طموحات بوتين
في أواخر الثمانينيات، انهار جدار برلين ومعه كل الستار الحديدي بطريقة غير متوقعة، وليس هناك إجماع تاريخي حول أسباب السقوط الحقيقية. تخلى الاتحاد السوفياتي عن الدول الفسيفساء التي كانت تجعل منه إمبراطورية عظمى دون حتى أن تطلب مقابلا لذلك، ليتمخض الكيان الضخم عن ولادة 15 دولة جديدة مستقلة.
شكل هذا الانهيار مفاجأة للجميع، يقول وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، إنه لم يحدث في التاريخ أبدا أن ذابت قوة عظمى بهذه الطريقة السريعة، دون أن يكون السبب هزيمة بالأسلحة.
حدث كل ذلك في عهد الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي تلبّس بالعديد من الأفكار المختلفة عن أسلافه من الرؤساء، كما أنه كان تبنى أفكارا طوباوية وحالمة عن نوايا الغرب تجاهه هو وبلاده، بعد أن اختار بكامل قواه، أن يكون عزيز قوم ذل! كل ذلك تحت شعار غير واقعي، باسم المصالح المشتركة للبشرية والحياة على الأرض، وقراءة جيوسياسية متوهمة عن روسيا التي ستصير جزءا من الغرب.
لم يهتم غورباتشوف بإنهاء صفحة الاتحاد السوفياتي بطريقة سليمة، لم يعترف قانونيا بنهاية الحرب الباردة، ولم يضع أي هيكل أمني جديد ولم يضع أية قواعد جديدة للعهد القادم. توجه الرئيس السوفياتي الأخير نحو الغرب، وأهمل حلفاءه الشرقيين تماما لدرجة توديع موسكو لمجلس التعاون الاقتصادي لمنطقة أوروبا الشرقية ومنظمة حلف وارسو.
حمل الرئيس السوفياتي سيفا خشبيا وحارب من أجل روسيا أكثر تغريبا، مواجها مقاومة شديدة من النخب القديمة وأجهزة الأمن والجيش الذين حاولوا الانقلاب في أغسطس/آب 1991. وفي النهاية؛ انهارت الشيوعية كلها، أو جلها، وكان هذا هو “أكبر خطأ تاريخي حدث”، هكذا قال قيصر روسيا الحالي، فلاديمير بوتين.
ظل الحنين مسيطرا على الأجواء، يحتفي الإعلام الروسي حتى الآن بالزمن الذي مضى، بالانتصارات التي سطرها “الأبطال السوفيات” ضد النازيين، أصبح ستالين مع مرور الزمن أكثر بطولة وإلهاما، خصوصا مع الإنتاجات الفنية التي ظهرت في العامين 2014 و2015.
طغى هذا الحنين حتى باتت روسيا الحرب اليوم كأنها عذراء ثانية، وأضحت احتفالات التاسع من مايو/أيار (يحتفل الروس بنهاية الحرب في هذا التاريخ) كأنها طقوس دينية يغلب عليها تقوى الوطن وتقديس أراضيه، هذه القدسية والحنين دفعا بلا شك بوتين لاتخاذ ذلك القرار بغزو أوكرانيا، حينها انقطع الخيط الدقيق الذي كان مرهقا بتاريخ من العداوات بين روسيا والغرب، وأعلنت موسكو بسيف الحنين والبراغماتية السياسية والمصالح الجيوسياسية غزو أوكرانيا التي كانت تابعة لها ذات يوم، في محاولة لم تنجح بعد لتصحيح مسار التاريخ الروسي واستدراك ما أخطأ فيها غورباتشوف.
والهدف المعلن: محاربة بقايا النازيين، الذين يحتفل أعداؤها الغربيون بالقضاء عليهم، كل عام، في الثامن من مايو/أيار، مثل تاريخ الأمس.