حتى الآن لا تزال الأهداف الإستراتيجية لحرب ترامب في اليمن غامضة. في المحادثة الشهيرة على تطبيق سيغنال كتب وزير الدفاع الأميركي قائلًا إن الأمر لا يتعلق بالحوثيين، بل باستعادة قدرة الردع، ومن أجل فتح الممرات المائية. حتى نائب الرئيس جيه دي فانس لم يصدّق حكاية الممرات المائية تلك، وكتب محذرًا – في المكان نفسه – من إنقاذ الأوروبيين مرّة أخرى.
ماذا يريد ترامب من حربه في اليمن؟ حاول كيث جونسون في مقالة له على فورن بوليسي في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان تقديم إجابة متعددة الطبقات عن هذا السؤال الغامض.
يعتقد ترامب أن بمقدوره النجاح في المسائل التي أخفق فيها بايدن، من ذلك حماية التجارة الدولية، وتفكيك المحور الإيراني المعقد. ولكن هل ثمّة من داعٍ، حقًّا، لفتح الممرات البحرية؟ في تقدير جونسون فإن ما فعله ترامب بالتجارة الدولية، والطرق البحرية، أخطر مما فعله الحوثيون. وإنه في لحظة تصدع التجارة الدولية وهبوط أسعار الناقلات فإن فتح الممرات البحرية لا يشكل أولوية للعالم.
ثمّة أمر خطر في اللعبة كلّها، فإذا كانت إدارة ترامب تريد أن تستعرض قدرتها العسكرية كي ترسل إلى الصين رسالة مفادها لا تفكّروا باحتلال تايوان، فإن أداءها الباهت في اليمن سيؤدي إلى نتائج عكسية، كما يعتقد جونسون.
استعادة الردع، كما كتبها وزير الدفاع في تعليقاته على سيغنال، تبدو الجزء المفهوم في الإستراتيجية الأميركية في اليمن. تواجه هذه الإستراتيجية تعقيدات بالغة الصعوبة بالنظر إلى افتقارها لإستراتيجية خروج في المدى المنظور.
فلا معنى لأي ردع تنجزه قوة هائلة كالولايات المتحدة الأميركية في أرض مهملة من أراضي العالم، كاليمن، ما لم تنتهِ المعركة بزوال المنظومة الحوثية واختفائها، أو على الأقل تفككها على طريقة حزب الله.
هذا الهدف يبدو غاية في الصعوبة ما لم يأخذ شكل حرب هجينة، داخلية وخارجية، وما لم تتراجع القوات الأميركية خطوة إلى الوراء لتأخذ شكل غطاء جوي لحليف قوي يحرك طاقته البشرية على الأرض.
بعد عام كامل من الضربات الأميركية- البريطانية على الأهداف الحوثية صعّد ترامب من العمل العسكري ضد العدو نفسه، معتقدًا أن بمقدوره كسب المعارك التي أخفق فيها سلفه.
إلى جانب المعركة في اليمن يخوض ترامب، على المسرح الدولي، معارك تستعصي على الحصر، ويبدو تركيزه مشتّتًا، حتى إن وزارة دفاعه لا تقدم أي إيجازات لوسائل الإعلام عن حالة الحرب في اليمن. ترامب المحاصر بضوضاء قادمة من كل مكان، وبملفات داخلية وخارجية مربكة، ينتظر خبرًا سعيدًا من اليمن ينهي به مغامرته تلك.
في بلاد شديدة التعقيد مثل اليمن، وأمام جماعة واسعة الخبرة مع الحروب الهجينة كالحوثيين، فإن أخطر ما قد يقدم عليه ترامب هو أن يعهد بتلك الحرب لمجموعة من الضباط والبيروقراطيين ظانًّا أنها ستكون حربًا خاطفة، فبلاده تملك الكثير من “الصواريخ الرائعة” بحسب كلماته.
كان بايدن وفريقه يدركون خطورة التحدي الذي يمثله الحوثيون، فهم “سريعون في إنتاج وسائل قتالية رخيصة وفعّالة، إن لم تكن بنفس جودة ما تنتجه الولايات المتحدة فهي جيدة بما يكفي لتؤثر على سير المعركة” كما قال سوليفان- مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن- أمام مجموعة من المراسلين الصحفيين في يناير/ كانون الثاني الماضي.
يرى سوليفان أن بلاده وقعت في “معادلة سيئة للغاية”، إذ تستخدم صواريخ متقدمة لإسقاط مسيّرات رخيصة نسبيًا، وتطلق الكثير من المقذوفات الذكية التي ينتجها المتعاقدون الأميركيون ببطء شديد، لفرط تعقيدها.
قبل أن يصل ترامب إلى البيت الأبيض كانت الإدارة الأميركية قد بذلت جهدًا في سبيل احتواء القوة العسكرية الحوثية. خلال مؤتمر للبحرية الأميركية في أرلينغتون، فرجينيا، مطلع هذا العام قال الأدميرال بريندان مكلين أمام جمهور من ضباط البحرية الذين تجمعوا لمناقشة دروس صراع البحر الأحمر، إن سفن البحرية الأميركية أطلقت 120 صاروخًا من طراز SM-2، و80 صاروخًا من طراز SM-6، و20 صاروخًا من طراز SM-3.
تكلف صواريخ SM-2 حوالي مليونَي دولار للواحد، بينما تكلف صواريخ SM-6، القادرة على إسقاط صواريخ باليستية أثناء الطيران، حوالي 4 ملايين دولار لكل صاروخ. أما صاروخ SM-3، القادر على ضرب أهداف في الفضاء، فيتراوح سعره بين 9 ملايين و28 مليون دولار للواحد.
لا توجد بيانات دقيقة عن مقدار ما أنفقته إدارة بايدن في حربها على الحوثيين خلال 15 شهرًا. بحسب كونستانتين توروبين، المراسل العسكري لموقع Military.com، فقد كلفت صواريخ الاعتراض البحرية الأميركية في زمن بايدن ما يزيد عن نصف مليار دولار. لا تشمل هذه الجردة الصواريخ الهجومية، غالية الثمن، من فئة توماهوك.
ثمة تخوف كبير من وضع وشيك ستعاني فيه البحرية الأميركية من عجز في الذخيرة الذكية. في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي أفصح صموئيل بابارو، قائد القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادئ، عن مخاوف حقيقية في رؤوس القادة، ولم تكُن العمليات العسكرية قد صُعّدت على النحو الكثيف الذي فعله ترامب.
إهدار السلاح الذكي في مطاردة الحوثيين قد يفرض “تكاليف على جاهزية أميركا للرد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي المنطقة الأكثر إجهادًا من حيث كمية وجودة الذخائر، لأن الصين هي الخصم المحتمل الأكثر قدرة في العالم” وفقًا لكلمات بابارو. ثمّة خصوم كبار، مثل الصين، تريد إدارة ترامب إقلاق سكينتهم من خلال استعراضها العسكري في اليمن.
سيكون من دواعي سرورهم ألا تصل تلك الرسالة أبدًا، وأن يتعثر الجيش الأميركي مرّة أخرى في بلاد جبلية. يبدو المشهد عامرًا بالسخرية والتناقض، فالجيش الذي ينزلق إلى وضع حرج في الإمداد في معركة “صغرى” ليس متوقعًا منه أن يقلق سكينة خصم يقف في أرضه، بين مصانعه وآلاته، ويصبو إلى استرجاع ما يعتقد أنها جزيرته الضالة.
إنتاج الذخيرة الذكية ليس بالأمر اليسير، كما أن إعادة ملء المخازن منها تتطلب وقتًا وجهدًا. وفقًا لمعهد بروكينغز فقد كان هناك 13 مقاولًا أميركيًا يصنعون صواريخ تكتيكية وقائمة واسعة من الأسلحة في العام 1990.
شجّعت الولايات المتحدة الأميركية على اندماج الشركات الصغرى مع الكبرى لتجد نفسها في العام 2020 أمام حقيقة إستراتيجية غير مريحة. فلم يعد هناك سوى ثلاثة متعاقدين يقومون بالمهمة، وهم: بوينغ، لوكهيد مارتن، وريثيون تكنولوجيز. المرونة التصنيعية التي امتلكتها أميركا قبل ثلث قرن من الزمن لم تعد قائمة الآن.
إلى أين ستمضي حرب ترامب في اليمن؟ يصعب تخيّل طريق للخروج أو صورة للنصر تشبع غرور القائد الأميركي الجديد الذي يعتقد أنه قادر على كسب المعارك التي تعثّر فيها سلفه.
اقترب بايدن من الحوثيين عسكريًّا بحذر شديد، فهم يمثلون تحديًا صعبًا على نحو خاص، و”سيكونون سعداء بحرب موسعة مع الولايات المتحدة” كما قال سوليفان للمراسلين الصحفيين، وكان يدرك ما يقوله. أما ترامب فقال علانية إنه ذاهب إلى القضاء التام على الحوثيين، وليس فقط فتح الطرق البحرية.
انهار حلفاء إيران في مناطق أخرى، غير أن الحليف الحوثي يبدو مختلفًا عن الآخرين، وسيكون من الخطأ الاعتقاد بأن زواله بات أمرًا مفروغًا منه.
تعتقد إيميلي ميليكيان، الباحثة في مركز رفيق الحريري، في مقالتها على موقع المجلس الأطلسي أن ما يجعل الحوثيين تحديًا صعبًا على نحو خاص هو مرونتهم العملياتية، قدرتهم على التكيف الإستراتيجي، ونفوذهم العميق داخل اليمن. فضلًا عن “تغير الأولويات الإقليمية والرغبة في تجنّب التصعيد مع إيران”.
إلحاق الهزيمة الحاسمة بهم، تعتقد ميليكيان، يتطلب مقاربة مركّبة تأخذ عناصر كثيرة في الحسبان، لا مجرّد إلقاء القنابل من الجو. ما لم يتحرك الظهير على الأرض، وهو هنا القوات المسلحة اليمنية، فثمّة فرصة أمام الحوثي لتجاوز سؤال البقاء.
تدعم قوى إقليمية تشكيلات عسكرية عديدة يداني تعدادها، بحسب مصدر عسكري يمني رفيع، المليون مقاتل. تتمتع تلك التشكيلات الواسعة بعنصر قاتل، فهي متناقضة ومتقاتلة، ولا يربطها رابط.
غير أن بمقدور ترامب دفع حلفائه إلى توحيد تلك الأشتات لتخوض معركة تحت سقف واحد، وهو أمر لا يزال حتى الآن خارج نطاق تفكير إدارة ترامب. على الأقل إذا أخذنا على محمل الجِد تصريحات وزير دفاعه حول عدم اكتراث وزارته بالمعركة اليمنية الداخلية.
حتى الآن لا يزال ترامب يعتقد أنه يملك خيوط اللعبة العسكرية الجارية في اليمن، ومن غير المرجّح أن قادته يضعون الحقائق أمامه كما هي، فهو قائد لا يحمل الكثير من الودّ تجاه الحقيقة.
مطلع القرن الراهن اعتقد بوش الابن أن امتلاء مخازن الذخيرة كافٍ لإحراز نصر حاسم في بلاد معقدة يقال لها أفغانستان. صارت تلك الحرب إلى الأطول في تاريخ أميركا، وبدلًا من “القضاء التام” على طالبان، فقد عادت الأخيرة لتحكم البلاد بعد 19 عامًا من الحرب ضد أميركا. وها هي تحكم كل أفغانستان مرّة أخرى، ولكن بسلاح أميركي هذه المرّة.
سمع القادة اليمنيون من حلفائهم العرب، مؤخرًا، كلمات لا لبس فيها. فما من أحد مستعد لخوض صراع إلى جانب حليف قد يغادر أرض المعركة غدًا وبلا سابق إنذار.
المثال الأوكراني في هذا السياق أكثر من كافٍ. بات العالم يدرك أن الولايات المتحدة تملك “صانعَ قرارٍ جريئًا وعدوانيًا بلا رحمة، يرغب بشدة في تحقيق النتيجة الأقوى، الأعلى، الأكثر لمعانًا، والأروع، ولا يفكر مرتين في الأضرار الجانبية التي سيتركها وراءه”، بحسب تحليل دان آدامز لشخصية ترامب في مقالة له على مجلة ذي أتلانتيك. وهذا اللون من القادة يذهب إلى المعركة ويعود، غالبًا، بالخسران.
وقديمًا نقل المسعودي في مروج الذهب عن أمير أموي قوله “وكان غياب الأخبار عنّا من آكد أسباب زوال ملكنا”. على أن الأمر، فيما يخص أميركا، لا يتعلق بزوال الملك، بل بما هو أقل من ذلك: بخسارة الحروب، المرّة تلو الأخرى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.