بليلة مزدحمة فنياً، اختتم مهرجان الفجيرة الدولي للمونودراما دورته الحادية عشرة، حيث شهدت ليلته السابعة والأخيرة عرض أربعة أعمال ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان من روسيا وألمانيا وسورية وسلطنة عمان، ذهبت في تعقب آلام الإنسان التي لا تتوقف بكونه ضحية وجلاداً في الوقت نفسه. عاش معها جمهور المهرجان رؤى من مشارب وهموم مختلفة، فبينما تعقب العرض الروسي أشباح التاريخ، وآلام الضحايا، وجراح الذاكرة الجمعية، مضى العرض الألماني نحو فرجة بصرية مدهشة اعتمد فيها كلياً على قدرات جسد الممثل مدعوماً بوسائط بصرية وصوتية شديدة الدقة والتعبير، أما العرض السوري فكان متوقعاً أن يكون ابن متاهة الحرب وتناول حكاية فنان مسرحي اختار البقاء في وطنه، رغم كل الألم والفقدان والعزلة، في الوقت الذي اختارت عُمان خوض مغامرة تبحث في هشاشة الإنسان في مواجهة الطغيان من خلال ذكريات سجين في ساعاته الأخيرة قبل الموت.
ذاكرة الموت
تمكن العرض الروسي من وضع بصمته الخاصة ضمن عروض المهرجان. العمل الذي حمل عنوان «من يعرف أحداً؟»، إعداد دينا زوماييفا، وإخراج يوري إيفليف، وأداء الممثلة ديوبساييفا يوليا، مضى بالجمهور برحلة تحليلية مضنية في نعمة وجحيم الانتماء وأبعاد الهوية، والوعي، وذلك الشر الهائل الذي يمكن أن يتولد بسبب الهوية الإثنية بعد التخلي عن الانتماء للإنسانية.
باقتدار شديد سيطرت الممثلة ديوبساييفا يوليا على حكايتها واستطاعت فرض حالة وجدانية وطرح أسئلة عميقة حول النظرة الأخلاقية إلى الجرائم التي ترتكب بحق الإنسان بسبب تلك الانتماءات الضيقة، كما ناقشت مفاهيم التوبة، والمسامحة. وبعمق روحي هيمن على أدائها المتقن عاش الجمهور تلك التفاصيل الدقيقة لقدرة الإنسان على أن يتصالح مع كونه قاتلاً وضحية في الوقت نفسه.
حفر بصري
تميز العرض الألماني «عمق ضحل» من إخراج جوناس كلينينبرج، وتمثيل جان جيديناك، بالذهاب إلى مساحته الاختبارية الخاصة. اختار أن يقدم فرجة بصرية مدهشة أشبه بالحفر البصري القائم على أداء جسدي شديد الدقة والانضباط وبلا إمكانية واحدة للخطأ. ينتمي هذا العرض إلى ما يمكن اعتباره «التكنو-مسرح»، الذي يمزج بين تقنيات الإضاءة والفلسفة الذهنية، لتحليل الكثير من القضايا الإنسانية الوجودية المعاصرة، وبدا في لحظات كثيرة كأنه يعيد بناء إنسان جديد بعد تعريته من الداخل ووضعه في مواجهة كل مخاوفه ومآزقه.
مثل هذه الأعمال الاختبارية لا تقدم نفسها بكونها منجزاً مكتملاً، ولا تميل لتقديم أجوبة على ما تطرحه بقدر ميلها لطرح الأسئلة وتعرية القناعات المسبقة الجاهزة، من خلال الاستناد إلى منابع نفسية داخلية عميقة للحكاية، وتراهن في الشكل على الإبهار لخلق التأثير وعلى التوازن والإيقاع المنضبط والصارم بين الانفعال وضبط الحركة، وهي مهمة صعبة في ظل غياب التواصل اللفظي.
قدم الممثل جان جيديناك أداءً جسدياً مهماً وملهماً، استطاع أن يتماهى مع كل تفصيلة فرضتها بنية العمل المركبة وشديدة التجريد، وأن يملأ بحضوره ذلك الفراغ في رحلة نهايات وتجدد موت وولادة، وتحولات لا تتوقف لحظة طيلة مدة هذا العرض شديد الخصوصية.
الصمود بالذاكرة
العرض السوري «وجوه» تأليف أحمد شقارة، وإخراج جهاد سعد، وبطولة الفنان سهيل حداد، اختار أن يتحدى الحرب ولعنتها بالذاكرة من خلال حكاية فنان مسرحي اختار البقاء في وطنه، متحدياً آلام الفقدان والعزلة، إنسان صامد في مفرمة أحلام وبشر ومصائر نراه يلجأ إلى الماضي ووجوه أحبة كانوا من أساسيات حياته اليومية والفنية.
على الرغم من ذاتية هذا العمل فإنه حاول ألا يكون حكاية فردية بل أن يتكئ في صموده على استدعاء وجوه رافقت الحياة الثقافية السورية في الموسيقى والرقص، والغناء، والتمثيل، والتلفزيون والسينما.. إنها واحدة من حكايا وأشكال الصمود الكثيرة في مواجهة مأساة إنسانية واسعة، لا تخص سورية وحدها، بل تمتد إلى كل الأوطان التي تعيش فداحة الخسارة والاغتراب عن الذات.
لم يسلم هذه العرض من بعض الكليشيهات التي بدأت تفرض نفسها على المسرح السوري في زمن الحرب، لكن حساسية الأداء وصدقه انتشلاه من هذا الفخ، وبدا في كثير من الأحيان في مواجهة لكل البشاعة الماثلة والمتنامية من خلال شخصية مهزومة، مشتتة، تخلط الحلم بالوهم، وتلامس حدود الفصام.
«وجوه» عرض يتعقب الخسائر ولا يستسلم لها بل يصنع منها محاولة أمل، فيما تبدو الذاكرة الجمعية كطوق نجاة لابد منه.
عزلة معقدة
من عُمان وعلى مدى 45 دقيقة، جاء عرض «متر في متر»، تأليف أسامة السليمي، إخراج أحمد الزدجالي، وتمثيل سامي البوسعيدي، ليأخذنا في رحلة مركبة عن مدى هشاشة وضعف الإنسان أمام القوة الغاشمة. العمل اتسم بجرأة فكرية وبصرية، ويروي حكاية سجين مناضل يفصله القليل عن الموت في زنزانة لا شيء فيها إلا الذاكرة والألم.
بطل العرض محاصر في مساحة لا تتعدى متراً في متر، وهي مساحة سجنه، نعيش ذلك الصراع النفسي المؤلم خلال اللحظات الأخيرة قبل الموت. مواجهة نفسه، وألمه، وخيباته، كل صغيرة وكبيرة في عمره، قبل إقدامه على الانتحار، فهو الشرط الوحيد أمامه ليخرج من السجن: «اقتل نفسك كي تخرج».
قدم ممثل العمل أداءً منهمكاً وبذل جهداً كبيراً في تمرير كل الصراعات التي يعيشها هذا السجين لكن الكثير من هذا الأداء سار في مساحة انفعالية مستمرة فيها قدر كبير من الصراخ، ربما لأن بنية النص تفتقد لعبة الإيقاع الدرامي المتصاعد، كما كانت الحركة المسرحية محدودة داخل ذلك المتر المربع المرسوم بالضوء، ربما هي محاولة لمضاعفة تأزيم الحالة ونقل حالة الأسر والضيق المهولة التي تعيشها شخصية العمل، لكننا من حيث الجوهر افتقدنا ذلك الفضاء المسرحي على الرغم من جماليات التكوينات البصرية والإضاءة، التي أضافت الكثير للعمل الذي افتقد لنسق حكائي، وربما كان هذا مقصوداً ومتعمداً.
«متر في متر» هو عرض غني قابل للتأويل والقراءة بطرق وزوايا متعددة، ويقدم تجربة عمانية ناضجة تحمل إمكانات واعدة في التجديد والابتكار.
. «عمق ضحل» قدم فرجة بصرية مدهشة أشبه بالحفر البصري القائم على أداء جسدي شديد الدقة والانضباط وبلا إمكانية واحدة للخطأ.
. «من يعرف أحداً؟» رحلة تحليلية في نعمة وجحيم الانتماء وأبعاد الهوية والوعي بعد التخلي عن الانتماء للإنسانية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news