اختارت عروض اليوم الثالث من مهرجان الفجيرة للمونودراما أن تكون محنة الإنسان ومآزقه الوجودية موضوعها المحوري، وبينما ذهب العرض الآتي من إسبانيا نحو الأسطورة والتاريخ لتشريح مفاهيم معقدة، مثل الذنب والغفران والحرية، في فضاء مسرحي رمزي طقوسي، اختار العرض الإيراني أن يكون ابن لحظته التقنية الراهنة من خلال فرجة بصرية اعتمدت على «الفيديو آرت» والتلاعب الضوئي، واستعادة رحلة «دون كيشوت» الرمزية، لكن هذه المرة بمنظور الصراع مع سطوة تقنيات التواصل الحديثة.
ترنيمة مسرحية
منذ اللحظة الأولى وضع العرض الإسباني «قطار ميديا»، للفنان رافائيل بينتو، جمهوره في مساحة طقوسية أسطورية، كنا أمام استعادة ومعالجة خاصة للأسطورة اليونانية الشهيرة «ميديا»، استعادة لم تكن بأي شكل من الأشكال لتسليط الضوء على الأسطورة نفسها، بل كانت بمثابة اختبار شخصي في أن تنطق «ميديا» بصوت الرجل من خلال سؤال محوري: ماذا يمكن أن تفعل أو تقول «ميديا» أمام كل ذنوبها لو صارت إنسانة من لحم ودم؟ وكيف يمكن للإنسان أن يتعايش مع أثقال الفقد، والذنوب العميقة التي لا تسقط بالتقادم ولا يمحوها الزمن؟
من اللحظة الأولى عبّر هذه العرض عن نفسه، كنا أمام فرجة بنيت بهدوء مفرط، وتحولات متقنة، كنا أمام أداء منضبط بشكل مدهش، على صعيد تقنيات وأدوات الممثل، وعلى صعيد الشكل، وتفاصيل الديكور التي تحولت بين يدي الممثل إلى أدوات لبناء شكل العمل الخارجي بهشاشة قابلة للانهيار في أي لحظة بينما كان يروي الحكاية، كنا في هذا العرض أمام الحد الأدنى من العناصر البصرية التي صنع منها الممثل البارع عالماً متكاملاً من الضوء والموسيقى والحركة الرمزية، وأصبح الجسد المتجسد للأسطورة بانضباطه الشديد هو محور الفراغ والصمت والمنطلق الأساسي لأدوات السرد.
بنيت حكاية «قطار ميديا» على سينوغرافيا بسيطة لكنها أعطت الممثل كل ما يريده للذهاب بعيداً في رحلة تعريته لمفاهيم عميقة في النفس البشرية، اعتمد العمل على الموسيقى كمؤثر جوهري في بنية الحكاية وفضائها، موسيقى موازية، وأخرى يصنعها الممثل بنفسه على الخشبة من خلال بعض الأدوات الوترية والإيقاعية المبنية كجزء من ديكور العمل ودلالاته البصرية، التي أضافت مناخ التراتيل السوداوية الأقرب إلى المرثيات والجنائزيات الأسطورية التي ترثي الفقد والغياب.
على خيط رفيع بين الإبهار والهشاشة سار الممثل طول مدة العرض بانضباط حسي فريد، فلم يكن هناك أي فرصة للخطأ، وكان عليه التعاطي مع مشاعره وانفعالاته بميزان من ذهب، فنحن لم نكن، من حيث المبدأ، أمام سرد لحكاية بل لعبة نفسية تتصاعد وتتحرك بأدوات تأخذ الواحدة منها معاني متنوعة، وتتصاعد بالإحساس المشدود تماماً، خصوصاً عندما تكون الريشة بكل هشاشتها وضعفها الحامل التي يبني عليها الممثل كتلة ديكوره، وهي التي تتسبب في انهياره في آخر العرض.
يدمج العرض الثقافة المحلية مع الأسطورة المعولمة، ويمضي في بحث حرية المرأة، من دون الوقوع في خطاب مباشر أو تقريري، بل من جانب نفسي ملهم مع استدعاء شخصية «ياسون»، ما ضاعف البعد المأساوي والجنائزي في هذه المونودراما، وحوّل الغائب إلى حاضر داخلي يتصارع قي كيان «ميديا» الممزق والمأزوم.
نجح العرض في بناء عالم متكامل من الضوء والموسيقى والحركة الرمزية، ليصبح الجسد والفراغ والصمت أدوات سرد قوية بحد ذاتها.
«قطار ميديا» لم يكن مجرد قراءة معاصرة لأسطورة قديمة، بل عمل ينتصر للقيم الإنسانية بامتياز، ويطرح أسئلة وجودية منبعها القيم الإنسانية، ويراهن على قوة الفن والإبداع في تحويل الألم والخوف إلى معنى.
لعبة الفضاء البصري
من إيران جاء العرض المميز الذي حمل عنوان «مستطيل»، بأداء الفنان الإيراني، سيد إمام أصفهاني رشيدي، تأليف وإخراج سحرا رمزانيان، ليقدم لنا لعبة مغايرة كسرت قوالب الفرجة المعهودة، ينقل العرض الجمهور إلى خشبة المسرح ويلغي الصالة، ووسط الجمهور الذي صار على خشبة المسرح يوجد ذلك المستطيل البصري الضوئي الذي تدور فيه حكاية ولعبة هذه التجربة الدلالية المكثفة.
سرعان ما يكتشف المتلقي أن هذا المستطيل الذي يلازمه الممثل ليس أكثر من سجن بمفاهيم معقدة، ومساحة دلالية لصراع إنساني لكن في شبكات التواصل وتقنيات التواصل، التي بات العمل أسيراً لها، إلى الدرجة التي بدأت الحياة الواقعية تتحول إلى عالم موازٍ وليس العكس.
يستنهض العرض البطل الشعبي من رمزيته المتمثلة في «دون كيشوت»، باعتباره نموذجاً في الذاكرة الإنسانية للبطل الباحث عن نفسه والمعنى الإنساني في عالم صعب ومليء بالشر والخديعة، لكن هنا لن يكون «دون كيشوت» ذلك الفارس الذي يخوض حروبه مع طواحين الهواء، بل مع عالم موازٍ حافل بالخدائع، ومقومات العصر التي باتت تحكم حياة الفرد وتحدد مساره، في حالة مريبة من الهيمنة المعقدة على أنماط التفكير والعيش وحتى الأحلام.
بطل المسرحية، على نهج صراع «دون كيشوت» الباحث عن الخلاص، ليست لديه القدرة على خوض معاركه بنفسه وسط هذا المستطيل، بل تحوّل إلى رجل ضائع ومشتت مستسلم لتحكم معالج بالطاقة، هو الذي يزيد من قيوده وحصاره، ونكتشف أنه يعيق توقه إلى التحرر والوصول إلى العالم الحقيقي.
وعلى مدى 37 دقيقة، مدة العمل، يرتحل بنا إلى عالم هذياني مأزوم ومعقد، يغادر «دون كيشوت» سياقة التاريخي المعروف إلى لحظة راهنة شديدة التأزم، إنها أمامنا شخصية إنسانية مشوشة وحائرة وضائعة تنشد خلاصها من غربة نفسية مركبة، لتسقط تحت سيطرة «المدرب الروحي»، الذي يتفنن بالاستثمار في معاناته، بينما يتحول «سانشو» من الرفيق والصديق الطيب إلى مجرد مدير أعمال جشع يستثمر هو الآخر بمفهوم البطولة الأخلاقية، ويحولها إلى منتج استهلاكي خاضع لموازين الربح والخسارة.
في هذا العرض المكثف، كنا أمام ممثل استطاع ضبط مشاعره المتداخلة والمركبة، وطاقته الحركية التي حولها إلى طاقة نقدية أكثر من أدائية، منتصراً لفكرة أن البطل المنهزم ليس مجرد إنسان خاسر بقدر ما هو كائن عالق في مكان بين الحقيقة والوهم.
بساطة الفضاء المسرحي كانت من مكامن قوة هذا العرض، مجرد مستطيل صغير تحول إلى مساحة تعبير مدهشة بالاستفادة طبعاً من تقنيات الضوء والظل والصوت، مستطيل هذا العرض هو بكل وضوح سجن العصر الحديث، إنه سجن داخلي مظلم وخانق وقاتل رغم كل الحرية الكاذبة التي يعد ويروج لها.
العرض لا يقدّم بطلاً تقليدياً، بل شخصية مأزومة ترى في الجمهور خصماً وصديقاً في آن، ولا يخلص العرض إلى خلاص أو انتصار وهزيمة، بل إلى لحظة فريدة من التلاشي الرقمي، إنها النهاية التراجيدية لأبطال العالم الافتراضي، الذين ينتهون بنقرة «ديليت» على الكيبورد.
«مستطيل» عرض يعرّي سجون العصر الحديث، المتمثلة في التقنيات، والعالم الافتراضي المظلم، رغم كل الحرية الكاذبة التي يعد ويروج لها.
نجح «قطار ميديا» في بناء عالم متكامل من الضوء والموسيقى والحركة الرمزية، ليصبح الجسد والفراغ والصمت أدوات سرد قوية بحد ذاتها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news