في فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استيقظت إسرائيل على حقيقة لم تكن مستعدة لمواجهتها: صوت صفارات الإنذار يشق سكون صباح سبت هادئ، وأصوات الانفجارات تمزق الهدوء المصطنع لمستوطنات غلاف غزة.
ويتتبع فيلم “العبور” ضمن سلسلة الأفلام الوثائقية “7 أكتوبر ثمن الحرب على إسرائيل” من إنتاج الجزيرة 360 والذي يمكن مشاهدته عبر هذا الرابط، لحظات الصدمة وتداعياتها من وجهة نظر إسرائيلية، ملقيا الضوء على النظرة المتعجرفة التي أعمت المؤسسة الأمنية والعسكرية عن رؤية ما كان يحدث أمام عيونها.
“لم يكن في حسبان أحد مطلقا أن الفلسطينيين سيقتحمون الجدار العازل”.. بهذه العبارة يلخص الصحفي والكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، جوهر الصدمة التي عصفت بمجتمع طالما اعتقد أن التفوق التكنولوجي والعسكري يمنحه حصانة مطلقة، لكن اللحظات الأولى للهجوم كانت كفيلة بتحطيم هذا الوهم إلى الأبد.
وتتراكم المشاهد الصادمة للمجتمع الإسرائيلي، ويرصد الفيلم شهادات صحفيين ومحللين إسرائيليين وأهالي جنود أسرى وقتلى مذهولين وهم يصفون كيف اقتحمت مئات العناصر قواعدهم العسكرية من 3 منافذ مختلفة، ويروي مدنيون بعيون متسعة مشهد سيارات بيضاء تُقل “مخربين” حسب وصفهم تتسلل داخل أراض ظنوها محصنة.
هذا المشهد الذي لم يتخيله أكثر الإسرائيليين تشاؤما أصبح واقعا يتحرك أمام أعينهم، حيث يقول أحد المتحدثين في الفيلم “لم نكن نتصور أن الجدار العازل، الذي كنا نظنه منيعا، يمكن أن يُخترق بهذه السهولة”.
وفي كلمات تلخص التحول النفسي العميق الذي أصاب المتجمع الإسرائيلي تقول ريشيل سرفتي، والدة أوفير المحتجزة جثته لدى المقاومة منذ 7 أكتوبر “شعرنا جميعا أن الأرض انتُزعت من تحت أقدامنا، وفقدنا السكينة والشعور بالأمان”، حيث انهارت فجأة صورة “إسرائيل كالقوة التي لا تُقهر في الشرق الأوسط”.
فشل استخباراتي
وينقل الفيلم إقرار رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلي المستقيل أهارون هاليفا بنبرة يخالطها الألم والندم، “ما حدث هو فشل في الاستخبارات والعمليات والقيادة السياسية”، متحملا مسؤولية إخفاق جهاز طالما تباهى بقدرته على التنبؤ بكل شيء.
تروي ليمور زرفاتي قصة ابنتها “رون” التي كانت ضابطة في وحدة المراقبة الجوية، وبدأت مناوبتها في الرابعة فجرا، قبل ساعتين فقط من الهجوم، وكانت آخر كلماتها لها “أماه، لن أُختطف ما دمت حية”، في مفارقة قاسية لمصير لم تتخيله.
فيما يستذكر إيال إيشيل حين وصله خبر مقتل ابنته روني الجندية في فرقة غزة بعد 34 يوما من انتظار مُضْن، حيث تأكدت العائلة من وفاتها عبر تحليل الحمض النووي، وأمكن أخيرا إقامة مراسم الحداد والجنازة.
المعتقد الذي كان متجذرا لدى كثيرين بأن الجميع في إسرائيل كانوا يرون أنهم يعرفون كل شيء ولديهم كل المعلومات الاستخباراتية في العالم تحطم في ساعات معدودة، كما أوضح دوف ليبمان العضو السابق في الكنيست، بنبرة مهزومة.
ويحكي السياسي الإسرائيلي كيف أن اعتماد إسرائيل بشكل كبير على التكنولوجيا أعمى بعض الأشخاص في الجيش عن الطرائق القديمة في الاستخبارات والعمليات العسكرية.
وفي مفارقة مثيرة، يكشف الفيلم كيف استخدمت حماس مبادئ عسكرية بسيطة لكنها فعالة؛ ومنها إطلاق صواريخ متواصل لإجبار الإسرائيليين على البقاء في الملاجئ، واستهداف كاميرات المراقبة والتكنولوجيا على الحدود.
هشاشة صادمة
وفي ذلك، يرى يوسي ميلمان، وهو صحفي إسرائيلي متخصص في شؤون الأمن والاستخبارات، أن “أكبر فشل للجيش الإسرائيلي”، هو أن “راكبي دراجات نارية” تمكنوا من كشف هشاشة جيش تُستثمر فيه مليارات الدولارات سنويا.
تتقاطع في الفيلم شهادات لافتة حول تحول دور الجيش الإسرائيلي عن مهمته الأصلية، فهو قد بات جيش احتلال وانشغل بالسيطرة على شعب آخر عن مسؤولية الأمن وحماية المستوطنين، بل وصل الأمر به للانشغال بملاحقة الأطفال في الضفة الغربية، كما يقول ميلمان.
ويتابع بأن “الغرور والقوة المفرطة والسلطة قادت الجيش إلى الجنون”، وذلك حين اعتقد أن دوره الوحيد ملاحقة الأطفال الذين يلقون الحجارة في نابلس، على حد تعبيره.
وكلف هذا التحول في مهام الجيش إسرائيل ثمنا باهظا، ففي مساء 6 أكتوبر، نقلت القيادة العسكرية 17 كتيبة إلى الضفة الغربية وتركت 3 أو 4 كتائب فقط في محيط غزة، في ما وصفه أحد المتحدثين بـ”الخطأ القاتل”.
ولم تقتصر الصدمة على المستوى العسكري والسياسي، بل امتدت عميقا في النسيج الاجتماعي الإسرائيلي، كما يكشف الفيلم، حيث يعاني العديد من الجنود من صدمات نفسية شديدة.
ويصف أحدهم حالته بألم: “أتخيل قذائف الـ آر بي جي تطير فوق رأسي.. أصبحت أعاني من نوبات هلع وأتبول على نفسي ليلا”؛ لتُظهر هذه الصور كيف أن الحرب لم تكن فقط صراعا عسكريا، بل كانت أيضا معركة نفسية طاحنة.
تحول إستراتيجي
وعبر عدد من المتحدثين في الفيلم عن غضبهم، ليس فقط تجاه “حماس”، بل أيضا تجاه قيادتهم، وحكومتهم التي أهملت الرهائن وفضلت الحرب لتحقيق مكاسب سياسية، كما يقول أحد المتضررين، في شهادة تعكس الانقسام الداخلي الذي خلفته الأزمة.
ويلخص الصحفي ميلمان، التحول الإستراتيجي الذي أحدثته عملية 7 أكتوبر، بأن قدرة الردع الإسرائيلية ضعفت بشكل واضح، “فكل من حماس وحزب الله بدعم من إيران لم يُردعا بالصورة أو التصور عن الجيش الإسرائيلي، وشنّا حربين على جبهتين”.
وتتصاعد أسئلة حول المستقبل، حيث يقول إيتاي ساجي أحد جنود النخبة، إن ما ينتابه من شعور يماثل ما ينتاب أي إسرائيلي فيما يتعلق بالحرب هو أن “شيئا ما تحطم بالنسبة إلى جميع الإسرائيليين”، بينما يتساءل آخرون عما إذا كانت إسرائيل ستتمكن من استعادة شعورها بالأمان مرة أخرى.
يرسم الفيلم صورة متكاملة لتحول تاريخي، حيث انهارت أساطير القوة الإسرائيلية المطلقة، وبدأ تشكل واقع جديد في المنطقة، تكشف فيه إسرائيل عن نقاط ضعفها التي طالما حاولت إخفاءها وراء صورة القوة التي لا تُقهر.
ولم يعد النقاش يدور فقط حول فشل عسكري أو استخباراتي، بل عن فشل وجودي لنهج كامل تجاه غزة، التي نظرت إليها إسرائيل عقودا على أنها مجرد تهديد أمني، وليست أرضا مأهولة بشعب له إرادة وقدرة على تغيير المعادلات.