الخط :
من جديد اعترفت الحكومة بفشلها الدريع في التصدي إلى غلاء المعيشة الفاحش في المغرب، وذلك من خلال بلاغ صادر عن حزب الاصالة والمعاصرة، أحد المكونات الثلاث للأغلبية الحكومية، الذي دعا فيه، يوم 11 مارس، إلى الضرب بيد من حديد على السماسرة والمضاربين في الأسعار، كما دعا الحكومة، علما أنه أحد مكوناتها، إلى إيقاف الإعفاءات الضريبية والرسومات الجمركية أثناء الاستيراد مادامت لم تنجح في التصدي لغلاء الأسعار.
وإذا كان من الصعب فهم حيتيات ودوافع هذا البلاغ الغريب المضمون والأطوار، فإن عددا من الأسئلة يمكن طرحها بهذا الصدد، ومنها على سبيل المثال: هل الأمر يتعلق بتفكك التضامن الحكومي المفترض؟ أم أن الأمر يتعلق بيقظة ضمير متأخرة لدى حزب الأصالة والمعاصرة بعد ثلاث سنوات من العمل الحكومي؟، أم أنه بكل بساطة حملة انتخابية سابقة لآوانها في إطار السباق المحموم الذي بدا بين هذه الأحزاب قبل زمن بعيد من الاستحقاقات المقبلة؟، وما بين هذه الأسئلة وتلك نصل إلى خلاصة في شكل تساؤل مكمل لهذه الساؤلات، وهو: ألا يتعلق الأمر، قبل هذا وذاك، بالضحك على ذقون المغاربة، واستهزاء بأوضاعهم الحالية، إذ أنه يبدو كاستهزاء سياسي وحزبي بأوضاع المغاربة التي تردت في ظل الغلاء الفاحش للأسعار والخدمات.
إن الصورة الكاريكاتورية التي يمكن أن يوصف بها بلاغ حزب الأصالة والمعاصرة، لا تعدو أن تكون طريفة إن لم نقل ساخرة، خاصة إذا ما استحضرنا صورة الحكومة وهي تدعو نفسها إلى إيقاف غلاء الأسعار، والضرب على أيادي السماسرة والمضاربين. نعم، إنها هي الصورة التي تشبه شخصا وهو يخاطب نفسه ويلومها على تهاونها، ويدعوها إلى التحلي بالجدية والنشاط، وهنا يمكن أن نتذكر تلك الأقوال الرائجة في البادية المغربية التي تستنهض الهمم والإرادات، حينما يخاطب المرء نفسه قائلا: “باراكة من النعاس يا هاذ الراس، ونوض هز العتلة والفاس” أو “أراسي أراسي شحال قدك تقاسي”.
لقد سبق لحزب الأصالة والمعاصرة أن نبّه نفسه بدعوة أخرى عن طريق رئيس فريقه أحمد التويزي، بتاريخ 11 شتنبر 2014، في لقاء صحفي دعا فيه الحكومة لوضع حد عاجل للمضاربين والسماسرة والمتلاعبين بالأثمان، وقال في نفس اللقاء إن فريقه في البرلمان سيلتقي بالحكومة للضغط عليها من أجل هذا الغرض، وهنا تزداد الغرابة ويتسع حجمها، حين يبدو هذا الفريق وكأنه مستقل عن حزبه، فيما يبدو حزبه وكأنه مستقل عن الأغلبية الحكومية، ولله في خلقه شؤون، فالفريق يدعو حزبه إلى التحلي باليقظة والعمل، والحزب يدعو نفسه إلى التحرك لمواجهة الغلاء، وهنا تأخذ الصورة الكاريكاتورية شكلا آخر، في صورة كائن يرفع يده ويوجهها ليصفع بها وجهه.
ولعل أبرز سؤال يمكن أن يطرحه المواطن في مواجهة هذه الشطحات البهلوانية، وهذا البلاغ الغريب، هو: لماذا ياترى لا يتحلى حزب الأصالة والمعاصرة بالشهامة، ويضع كل هذه المراوغات الحزبية جانبا، ويتخذ موقفا صريحا داخل المجلس الحكومي أو اجتماع الأغلبية، أي “يضع البيضة بالطاس بلا صداع الراس”، أي يطرح البدائل ويطالب بتبنيها وتنفيذها، ولو قام بهذا الفعل لكسب رضى المواطن ومصداقية الذات بدلا من المراوغات التي تثير السخرية والاستهزاء.
لقد سبق لزعيم حزب الاستقلال نزار بركة أن سلك نفس المسلك في تجمع خطابي، و دعا بدوره الحكومة للتحرك من أجل مواجهة السماسرة والوسطاء و”الشناقة”، وهو ما يعني أن نتيجة هذا التحرك الحكومي وصلت إلى أغلبية اثنين مقابل واحد، أي أن الأغلبية داخل الأغلبية أصبحت تتبرأ من أداء الأغلبية، ولم يبق سوى حزب التجمع الوطني للأحرار الذي لم ينتفض بعض على نفسه، لنعلن انتهاء العمل الحكومي، أما الإئتلاف فقد أصبح في خبر كان.
إن حزب الأصالة والمعاصرة، وهو يدعو اليوم إلى الضرب بيد من حديد على الوسطاء والسماسرة و”الشناقة”، الذين يتلاعبون بسلاسل التسويق والتجارة، إنما يعترف بعظمة لسانه، بأنه كان يداعب هذه الفئة من المضاربين بيد ناعمة، واليوم استيقظ من سباته، ليحول اليد الناعمة إلى يد من حديد، ونحن بدورنا نسأله: من أين لك أن تستورد هذا الحديد؟، هل من موريتانيا القريبة منا، أم من مصر البعيدة شيئا عنا؟.
فعوض أن يتسم بلاغ حزب الأصالة والمعاصرة بالبلاغة، غطته للأسف لمسة من البلاهة، والتي تعني في قواميس اللغة العربية، ضعف الرأي وتشتت الفكر والعقل، بل وغلبته الغفلة وقلة التمييز أيضا، وهذا ما يستنتج منه اعترافا صريحا بالفشل، وانسحاب قبل الآوان من الغمار الحكومي، إن لم نقل تنازلا عن التنافس من أجل الوصول إلى الحكومة المقبلة، طبعا، ما دام الأمر يتعلق باعتراف بالفشل بعد ثلاث سنوات من العمل الحكومي. لكن خطورة هذا البلاغ تكمن أنه محاولة للعب بالنار، دون أن تنتبه إلى ذلك قيادته الثلاثية التي لا تفكر بعقل واحد، فالحزب وهو جزء من الحكومة خرج ينتقد العمل الحكومي، لتكون الخلاصة الاحتمالية، أنه يلمح إلى وجود حكومة أخرى في الظل، دون أن يعلن عن مكان تواجدها.
فعوض أن يستجمع حزب الأصالة والمعاصرة قواه، ويطرح الحلول البديلة أمام انظار رئيس الحكومة أثناء مجلس الحكومة أو اجتماعات، ذهب بعيدا ليلقي بالحجارة على عمل شارك بنفسه في صياغته وصناعته، وإلا، فإذا كان الوسطاء والتجار اغتنوا اليوم بفضل العبث الحكومي، وهو اغتناء غير مشروع، فلماذا هبّ عبد اللطيف وهبي وزير العدل وزعيم الأصالة والمعاصرة حينها، إلى سحب مشروع قانون الإثراء غير المشروع من البرلمان، وهو القانون الذي كان سيسهل، بشكل مسطري سريع وفعال، محاربة تلاعبات الإثراء غير المشروع في التجارة أو في المسؤولية أو حتى في الوظيفة العمومية.
وأخيرا، فإذا كان المثل يدعو إلى عدم الاستغراب والتعجب في معمل صناعة العجب، فإننا لن نستغرب فعلا إذا ما قامت الحكومة ودعت المواطنين إلى الضغط على الحكومة من أجل التحرك ومواجهة الغلاء، ورحم الله المتنبي:
ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُ
أَنّي بِما أَنا باكٍ مِنهُ مَحسود