العمل عن بُعد: فرصة استراتيجية للشركات الناشئة والحكومات في عصر الاقتصاد الرقمي

دبي- خاص

الكاتب: حسام محسنة 

خبير تقني وقائد مجتمعات تكنولوجية

قد تكون التحولات العالمية قد سَارعت من وتيرة العمل عن بُعد، ولكن السؤال الحقيقي هو: هل كان ذلك حلاً مؤقتاً أم أنه مستقبل العمل؟ إن التحول إلى العمل عن بُعد لا يمثل مجرد استجابة للتحديات، بل هو تحول جذري في كيفية بناء الشركات وتشغيلها. إذا نظرنا إلى المستقبل، نجد أن شركات المستقبل تتبنى هذا النموذج بالكامل لكونه ميزة استراتيجية تفتح فرصًا لا يمكن للأنماط التقليدية للعمل أن توفرها.

الاستفادة من قاعدة مهارات عالمية

أحد أبرز الأسباب التي تجعل نموذج العمل عن بُعد هو مستقبل الشركات الناشئة هو قدرته على الاستفادة من قاعدة مهارات عالمية. فبدلاً من أن تكون الشركات محصورة في التوظيف ضمن نطاق جغرافي معين، أصبح بإمكان المؤسسين الوصول إلى أفضل العقول في أي مكان بالعالم. فتوسع نطاق التوظيف يفتح الأبواب أمام وجهات نظر متنوعة، وأفكار مبتكرة، ومهارات متخصصة قد لا تكون متاحة في السوق المحلي. بالإضافة إلى ذلك، لا تحتاج الشركات الناشئة إلى قصر توظيفها على مدن باهظة التكاليف. بل يمكنهم توظيف أفضل المواهب من أسواق ناشئة مما يضمن الحصول على أفضل مرشح للوظيفة دون عبء تكاليف الانتقال أو المنافسة مع الشركات الكبرى.

أحد الأمثلةعلى نجاح هذا النموذج شركة Buffer، وهي منصة لإدارة صفحات التواصل الاجتماعي التي بنيت على نموذج العمل عن بُعد بالكامل. فريق هذه الشركة يتكون من أعضاء يعملون من جميع أنحاء العالم، وقد نجحوا في بناء ثقافة قوية من التعاون والشفافية رغم عدم وجود مكتب مركزي. هذه الشركة حققت نجاحًا ملحوظًا رغم أنها حصلت على تمويل محدود جدًا في مراحلها الأولى، وهو ما يثبت أن العمل عن بُعد لا يتطلب رأس مال ضخم أو مكاتب فاخرة ليكون مجديًا. بدلاً من ذلك، يمكن لهذا النموذج أن يوفر مرونة كبيرة في التوظيف، مما يتيح للشركة التوسع بسرعة مع تقليل التكاليف الثابتة.

المرونة والتوازن بين العمل والحياة

ركيزة أخرى لنموذج العمل عن بُعد هي قدرته على تعزيز التوازن بين العمل والحياة. بالنسبة للمؤسسين والموظفين على حد سواء، يتيح العمل عن بُعد حرية تصميم أيامهم بناءً على حياتهم الشخصية. تتيح هذه المرونة زيادة رضا الموظفين، وزيادة الإنتاجية. فبدلاً من الضغوط اليومية للتنقل أو ساعات العمل الثابتة، يستطيع الموظفون العمل في الأوقات التي يشعرون فيها بأكبر قدر من الإبداع والكفاءة، وفي الوقت نفسه الحصول على وقت أكبر للأنشطة الشخصية.

بيئات عمل شاملة

تواجه الشركات التقليدية صعوبة في تحقيق التنوع والشمولية، حيث تكون الفرص عادةً مقيدة بالقرب الجغرافي والأسواق المحلية. ولكن الشركات التي تعتمد العمل عن بُعد تزيل هذه الحواجز، مما يسهل بناء فرق متنوعة من حيث الجغرافيا والثقافة. يتيح نموذج العمل عن بُعد خلق بيئة عمل شاملة حيث يمكن للموظفين من خلفيات مختلفة أن يساهموا بشكل متساوٍ في مهمة الشركة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن المرونة التي يوفرها العمل عن بُعد مفيدة بشكل خاص للأشخاص ذوي الإعاقة، أو أولئك الذين يتعين عليهم العناية بالآخرين، أو من يواجهون تحديات أخرى في بيئات العمل التقليدية. هذا الشمول ليس فقط أمرًا أخلاقيًا، بل ميزة تجارية أيضًا، حيث أظهرت الدراسات أن الفرق المتنوعة تقود إلى نتائج أكثر ابتكارًا ونجاحًا.

إعادة التفكير في استراتيجيات المكاتب التقليدية

لا تقتصر الشركات التي تعتمد على العمل عن بُعد على نقل العمل إلى بيئة غير مكتبية فقط، بل هي تعيد التفكير في الاستراتيجيات والممارسات التي تقف وراء النموذج التقليدي للمكاتب. فبدلاً من التفاعلات اليومية وجهًا لوجه، تقوم الشركات الناشئة بإعادة تصميم الأنظمة والعمليات التي تركز على النتائج بدلاً من عدد الساعات التي يقضيها الموظف في العمل، والثقة بدلاً من الإدارة التفصيلية.

لقد أصبحت أدوات الاتصال، والعمل التعاوني وإدارة المشاريع عناصر أساسية في الشركات التي تعتمد العمل عن بُعد. هذه الأدوات تُمكن الفرق من تنظيم العمل دون الحاجة إلى الاجتماعات المستمرة ومما يضمن عدم تأثير اختلافات الوقت على التعاون. علاوة على ذلك، فقد اعتمدت الشركات التي تعتمد على العمل عن بُعد سياسة “العمل من أي مكان”، مما يزيل قيود المساحات المكتبية الثابتة ويتيح للموظفين اختيار بيئة العمل التي تناسبهم.

القابلية للتوسع، الفعالية من حيث التكلفة، والمرونة

بالنسبة للشركات الناشئة، تعتبر القابلية للتوسع في نموذج العمل عن بُعد بمثابة تغيير قواعد اللعبة. فبدون الحاجة إلى مساحة مكتبية أو مرافق أخرى، يمكن للشركات أن تخصص المزيد من الموارد لتطوير المنتجات والتسويق واكتساب المواهب. هذا النهج الفعّال من حيث التكلفة مهم بشكل خاص بالنسبة للشركات الناشئة في المراحل المبكرة، حيث يعتبر كل درهم من المال ذا أهمية كبيرة. كما أن العمل عن بُعد يساعد الشركات على التوسع بسرعة دون العبء المالي المرتبط بالحفاظ على مكتب.

علاوة على ذلك، يعزز نموذج العمل عن بُعد من مرونة الشركات. فبوجود فرق موزعة، تصبح الشركات أكثر قدرة على التعامل مع الانقطاعات غير المتوقعة، سواء كانت مرتبطة بأزمات صحية أو أحداث جيوسياسية أو كوارث طبيعية. يضمن التحول إلى العمل عن بُعد أن الفرق تستطيع الاستمرار في العمل بسلاسة بغض النظر عن الظروف الخارجية. في بيئة عمل متقلبة، تعتبر هذه المرونة ميزة تنافسية كبيرة.

الميزة التنافسية

إن الشركات الناشئة التي تعتمد على نموذج العمل عن بُعد هي التي ستزدهر في المستقبل. ستكون أكثر مرونة وابتكارًا وقوة، مع فريق متحفز ومفوض للقيام بأفضل عمل ممكن. ومع استمرار العالم في التحول إلى اقتصاد أكثر ترابطًا وبدون حدود ورقمي، فإن القدرة على العمل عن بُعد لن تكون مجرد حل مؤقت، بل ستكون أساسًا للنجاح المستدام والقابل للتوسع.

الحكومات تتبنى النموذج: الإمارات مثالًا

وفي سياق موازٍ، بدأت الحكومات تبني نموذج العمل عن بُعد كأداة استراتيجية. في آخر اجتماع لمجلس الوزراء في دولة الإمارات العربية المتحدة، أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على أهمية اعتماد نظام العمل عن بُعد من خارج الدولة في الحكومة الاتحادية. يهدف هذا النظام إلى الاستفادة من الكفاءات العالمية لتنفيذ المشاريع والدراسات المتخصصة، وهو ما يعكس بشكل واضح كيف أن الحكومات، مثل الشركات الناشئة، بدأت في التفكير بشكل مرن وتوسعي يفتح أمامها فرصًا عالمية، مما يعزز من قدرة الدولة على جذب استثمارات وموارد بشرية متميزة من جميع أنحاء العالم.

الخلاصة

في الختام، فإن نموذج العمل عن بُعد ليس مجرد توجه مؤقت، بل هو مستقبل كيفية عمل الشركات الناشئة والحكومات على حد سواء. من خلال إعادة التفكير في استراتيجيات العمل التقليدية واعتماد أدوات وتقنيات جديدة، ستبني الشركات الناشئة القادمة بيئات عمل أكثر شمولًا، مرونة، وقابلية للتوسع، بينما تعزز الحكومات من قدرتها على جذب أفضل المهارات والخبرات العالمية.

عن آمنة البوعناني

Check Also

موانئ دبي العالمية تُسجِّل عوائد قياسية بقيمة 20 مليار دولار أمريكي

وأرباحاً قبل استقطاع الفوائد والضرائب والإهلاك والاستهلاك بقيمة 5.5 مليار دولار أمريكي دبي، دولة الإمارات …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *