كيف نقرأ عقل الدولة الصهيونية؟ | سياسة

لم تأتِ تلك المشاهد الممتلئة بالعزة والقوة عند تسليم حماس للأسرى الإسرائيليين من فراغ، فقبلها رحلة طويلة من النجاحات والانتصارات التي قدمتها المقاومة يوميًا، في مواجهة سقوط وفشل يومي تردّت فيه إسرائيل إلى حيث لم تكن تتوقع، وهذا ما لا يجب أن ننساه.

15 شهرًا من السعير والسعار الصهيوني عاشته غزة تلونت فيها عذابات أهلها ما بين مذابح صارخة ومنهجية وإعدامات ميدانية، وأشلاء ممزقة ومتطايرة، وجثث تنهشها الكلاب، وأجساد متبخرة وأخرى متفحمة، وعنف الإبادة الجماعية والتجويع حتى الموت، حتى بتنا نرى صنوفًا جديدة من الموت ما عهدناها حتى في سرديات محرقة الهولوكوست المزعومة، أو معتقلات شمال سيبيريا المتجمدة (نظام جولاج).

هذا ما أكدته فرانشيسكا ألبانيز المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية في تصريحها حول تشريح الإبادة الجماعية حين قالت: “لقد ارتكبت إسرائيل عمدًا ثلاثة أعمال إبادة جماعية:

  1. قتل أعضاء الجماعة.
  2. والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير لأعضاء الجماعة.
  3. وفرض ظروف معيشية محسوبة على الجماعة عمدًا لتدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”.

ورغم هول ما يشهده القطاع من جحيم مستعر، وهو ما تجاوز توقعاتنا ودهشتنا، لم يحرك العالم راكدًا سواء من قبل القريب الباغض المتشفِّي بالمقاومة وأهلها، أو البعيد المستكلب والمستضبع، بل ظل يمارس زندقته ولامبالاته البغيضة وكأن القتل ضرورة سياقية طبيعية والتفنن في زيادة الأوجاع ميزة نسبية، وبالمناسبة ليس مفاجئًا لنا منح عقلية الدولة الصهيونية لنفسها الحقّ في ركوب صهوة العربدة فهذا ديدنها منذ نشأتها، لكن الأكثر فجاءة هو الترقب العالمي المنتشي والمريب في آن للحظة إعلان فناء غزة بمن فيها، ذلك الترقب الذي يشبه إلى حد كبير لحظة تعطّش انفراد إخوة يوسف بيوسف، أو كترقب قطاع الطرق للانقضاض على قافلة يتيمة تسير في جِنح الليل.

مبادئ سعار الفكر الإستراتيجي الصهيوني

هذا السعار يعود بنا إلى العام 1985، حيث نشر مركز الدراسات الإستراتيجية بجامعة “تل أبيب” مجموعة من الدراسات، وضعها حينها الخبير الإسرائيلي “دوف شافير” حول مستقبل السياسة العسكرية الصهيونية في منطقة شرق البحر المتوسط، والتي تركز على مجموعة من المبادئ الإستراتيجية يأتي في مقدّمتها:

1- أن إسرائيل دولة قائمة على مبدأ التوسع، وهو جوهر المفهوم الصهيوني للدولة، ولن تتخلى عنه لأنه محور بقائها وهو ما تترجمه أمرًا واقعًا في قضم متواصل لأجزاء من فلسطين، ولبنان، وسوريا.

2- تؤمن الإستراتيجية الإسرائيلية أنها – أي إسرائيل- دولة شرق أوسطية، وهذا النوع من التكتيك مردّه إلى اعتبارات اقتصادية بحتة، وخلاصتها أن إسرائيل لن تستطيع أن تستمر في الاعتماد على الولايات المتحدة الأميركية لضمان مستوى معين من المعيشة، وهي من ثم لا تجد بديلًا لذلك إلا سياسة اقتصادية مسيطرة، وأحد عناصر تلك السيطرة التوغل في السوق الشرق أوسطي.

3- فكرة الحرب الدورية كل فترة معينة (كل عشر سنوات تقريبًا)، يتعين عليها أن تدخل في حرب تؤدي عدة وظائف: تحقق توسعًا، تخلق تعاطفًا عالميًا، تصدر المشاكل، وأخيرًا تدّعم اقتصاداتها بالمعونات والمكتسبات (حرب 1948، أعقبتها حرب 1956، ثم جاءت حرب 1967، وحرب 1973 والتي شنتها مصر، وسوريا، ولكن أعقبتها في العام 1982 حرب لبنان، ثم الانتفاضة الأولى 1987 والثانية عام 2000).

والملاحظ هنا أن فكرة الحرب الدورية تقلصت مدتها الزمنية منذ دخول إسرائيل الألفية الثالثة، فقد دخلت حروبًا ضارية مع قطاع غزة (2009- 2012- 2014- 2019- 2021 -2022- 2024)، وهذا مرتبط ارتباطًا عضويًا بالمبدأ الرابع (أدناه) وهو الأهم في نظرنا لأنه يعكس تجديدًا في الفكر الصهيوني.

يتعلق هذا المبدأ بالمشاكل الأمنية ويتمحور حول سؤالين اثنين: متى يجب أن تحارب إسرائيل – وكيف يجب أن تحارب؟ أي الفارق بين نظرية الأمن القومي ونظرية الحرب أو القتال.
الإجابة عن هذين السؤالين تستدعي بالضرورة شرطين اثنين يتوجب على الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تنفيذهما:

  • أولًا: أن تكون إسرائيل هي البادئة بالعدوان.
  • وثانيًا: أن تكون متفوقة بطريقة ساحقة، وهذا ما دأبت على فعله مرارًا وتكرارًا، فالقاعدتان السائدتان لديها تنصان على “أن اليد التي تجرؤ على أن تفكر في المساس بالسطوة الإسرائيلية يجب أن تُقطع قبل أن تتحرك”، و”إذا لم نتمكن من أن نكون أسيادًا لتاريخنا فلا بد لنا من أن نجد الطرق المناسبة لإخضاع عالمنا الجامح هذا لسيطرتنا”.

لا يفلّ السعار إلا سعار مثله

نستطيع أن نقول وبصوت عالٍ إن الاستثناء أو “القطع” التاريخي” كان حاضرًا وبقوة هذه المرة، وهو التصدّع والشرخ الكبيران اللذان أحدثتهما أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، فقد جاء طوفان الأقصى ليجعل السياسة العسكرية الصهيونية حاسرة الرأس، ويُعرِّيها ويزعزع كل مبادئها.

فعلى الرغم من فداحة الخسائر على الصعد الإنسانية والحقوقية والاقتصادية والبنى التحتية فإن المبادأة والمباغتة كانتا فلسطينيتين بامتياز، وهو ما جعل إسرائيل كالسمكة المضروبة على رأسها ترفرف بذيلها تتخبط وتتلوى، وكل السياسات والإستراتيجيات العسكرية التي أعقبت ذلك الهجوم ما هي إلا ردّات فعل ذلك المارد الأخرق الذي يمسك بيده هِراوة أكبر من حجم يده، ولكنه لا يعرف إلى أين وكيف يوجه ضرباته بها، فانهالت على المدنيين من أطفال ونساء قتلًا وتنكيلًا حتى بلغ عدد الشهداء من القطاع 46 ألفًا وقرابة الـ 10 آلاف مفقود، ناهيك عن آلاف المعتقلين، كما انهالت كآل فرعون بكل حقد على الشجر والحجر فلم تبقِ ولم تذر من المساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات شيئًا إلا دمرته.

وهذا يقودنا إلى نتيجة رئيسية في غاية الأهمية وهي أن قيادات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية رغم انعتاقها من التراث الأيديولوجي الصهيوني والصراعات السياسية والحزبية (سياسي يمارس القيادة العسكرية)، وتلبُسها بلبوس الحياة الجندية وصقلها بتقاليد الممارسة القتالية (رجل المهنة العسكرية وهو يتعامل مع السلطة السياسية)، قد فقدت بوصلة الاتجاه ولم تعرف مع أي الفريقين تتماهى، وما التخبط الذي تعيشه المؤسسة العسكرية منذ اندلاع الأحداث إلى ساعة وقف إطلاق النار في الـ18 من يناير/ كانون الثاني الماضي إلا دليل دامغ على ذلك.

لقد رأينا أنه كلما أثخنتهم المقاومة الباسلة بسياطها تنكيلًا بهم وبسمعة “جيشهم الذي لا يُقهر” ازداد سعارهم ضد المدنيين العزل، وبمعادلة رياضية بسيطة يمكن القول إن ترسانة الأسلحة المتطورة الصهيو-أميركية البرية منها والجوية ونظام القبة الحديدية، وغيرها من الأسلحة الفتاكة عجزت عن تحقيق الهدف الرئيس من الحرب، وهو القضاء على حركة حماس أو حتى إضعافها وتحييدها، فقد أجادت هذه الأخيرة سياسة إدارة الضعف وتحويلها إلى قوة ضاربة لا يستهان بها.

هذا السعار الهستيري على القطاع وأهله جعل من التركة الصهيونية المُعمِّرة والمتمثلة في استقطاب التعاطف العالمي عبر السردية التاريخية المزعومة بحيرةً جفّ ماؤها فانفضَّ العالم من حولها، فبحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية التي لطالما أكدت أنّ إطالة الحرب من دون تقديم خططٍ لما يسمى “اليوم التالي” تؤدي إلى تراجع تأييد “إسرائيل” في العالم وتزايد الضغط العالمي عليها وهذا ما حدث فعلًا.

وقد نشر مركز بيو للأبحاث مطلع يونيو/ حزيران الماضي نتائج استطلاعات رأي، أظهرت تضاؤل التعاطف الدولي مع إسرائيل، وكشفت عن أن حكومة نتنياهو تعيش فيما يشبه العزلة السياسية، إذ عبّرت المستطلعة آراؤهم من الإسرائيليين عن قلقهم إزاء صورة دولتهم، وقال غالبيتهم إنها لا تحظى بالاحترام في جميع أنحاء العالم، بل رأى 15% منهم أنها “لا تحظى بالاحترام على الإطلاق”.

بالإضافة إلى ذلك فقد تمت مشاركة بيانات مع مجلة TIME من شركة Morning Consult لاستخبارات الأعمال والتي أشارت إلى أن الدعم لإسرائيل في جميع أنحاء العالم قد انخفض بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب في غزة، فقد انخفض صافي الأفضلية – أي النسبة المئوية للأشخاص الذين ينظرون إلى إسرائيل بشكل إيجابي بعد طرح النسبة المئوية التي ينظرون إليها بشكل سلبي- عالميًا بمتوسط (​​18.5) نقطة مئوية بين سبتمبر/ أيلول وديسمبر/ كانون الأول 2024، وانخفض في (42) من أصل (43) دولة شملها الاستطلاع، وتحولت الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل والعديد من الدول الأخرى في أميركا اللاتينية من النظرة الإيجابية لإسرائيل إلى السلبية، وشهدت العديد من الدول الغنية التي كانت لديها بالفعل وجهات نظر سلبية واضحة تجاه إسرائيل – بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة – انخفاضات حادة.

وكذا ارتفع صافي الأفضلية في اليابان من (-39.9) إلى (-62.0)؛ وفي كوريا الجنوبية من (-5.5) إلى (-47.8)؛ وفي المملكة المتحدة من (-17.1) إلى (-29.8)، بالإضافة إلى ذلك فقد عرضت مجلة إيكونوميست نتائج استطلاع قامت به شركة “دي إم آر” لتقنية الذكاء الاصطناعي على مليون حساب من مختلف وسائط التواصل الاجتماعي، للفترة من 7 إلى 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وجاءت نتائجه صادمة للجانب الإسرائيلي، إذ أظهرت أن التعاطف مع إسرائيل -الذي ارتفع عقب عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي “قد جف”، وقد صرحت سونات فريسبي – نائبة رئيس قسم الاستخبارات السياسية في الشركة التي أجرت الاستطلاع- بأن هذه المعطيات تظهر مدى صعوبة المسار الذي تسلكه إسرائيل حاليًا في المجتمع الدولي.

من جهة ثانية، وفيما يتعلق بتركة إسرائيلية معمِّرة أخرى أصابتها المقاومة الفلسطينية بمقتل والمتمثلة في تدعيم الاقتصاد الصهيوني بالتبرعات والمعونات، فقد نشرت وزارة شؤون الشتات الإسرائيلية تقريرًا حول تبرعات المنظمات والأفراد من جميع أنحاء العالم من أجل تعافي إسرائيل من هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول، تجاوزت الـ(1.4) مليار دولار أميركي، فبحسب الوزارة فقد تم جمع حوالي نصف المبلغ من قبل الاتحادات اليهودية في أميركا الشمالية والمنظمات الأعضاء فيها البالغ عددها (146) منظمة، مبينة أن ما لا يقل عن (350) منظمة غير ربحية إسرائيلية إلى جانب العديد من الوكالات الحكومية، تلقت تبرعات من الخارج للمساعدة في الخدمات الطبية وخدمات الطوارئ، ودعم الصحة العقلية، ومساعدة ضحايا الإرهاب، والاحتياجات الاقتصادية.

لكن يبدو أن لرياح السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، رأيًا آخر، فقد جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن القيادة الإسرائيلية بعد تفعيل نظام عنف الإبادة الجماعية، فقد صرح لاري غوتليف المتبرع القديم لإسرائيل، بقوله: “إنني سأكون سعيدًا لو لم تصل الأموال التي أجمعها إلى بناء المستوطنات في الضفة الغربية، لأني بت أرى المزيد والمزيد من اليهود الأميركيين لا يقدمون تبرعاتهم لإسرائيل كما في السنوات والعقود السابقة، وذلك لأسباب معظمها سياسية ودينية، بسبب وجود نتنياهو ووزرائه في الحكومة ومعه الحاخامات”.

كما طالب أعضاء في الكونغرس الأميركي الرئيس الأميركي السابق “جو بايدن”، باتخاذ الإجراءات لوقف استخدام التمويل الأميركي، الذي يذهب لدعم انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع العلم أن الولايات المتحدة الأميركية تقدم معونات لكيان الاحتلال، تصل إلى 3.8 مليارات دولار سنويًا، كأعلى “دولة” خارجية تتلقى دعمًا أميركيًا، هذه التركات الوظيفية عملت عليها الصهيونية السياسية لعقود طويلة ولكن أبت المقاومة إلا أن تضع بعضها على عرش خاوٍ، نعم قد يستحيل قطع التمويل الأميركي لإسرائيل لكن لم تألُ المقاومة جهدًا في ذلك، حيث قامت بتحييد بعضها وبإجهاض وقصقصة أجنحة أخرى.

الآن وقد وضعت الحرب أوزارها، وبعد زهاء أكثر من 15 شهرًا على الحرب، تواجه إسرائيل أكبر تحدٍّ اقتصادي لها منذ سنوات، حيث تشير البيانات إلى أن اقتصادها يشهد أشد تباطؤ بين أغنى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.1% في الأسابيع التي أعقبت الهجمات التي قادتها حركة حماس، واستمر الانحدار حتى عام 2025.

ولا شك أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها إسرائيل كبيرة والحرب المطولة لا تزال تلحق الضرر بالتمويل الإسرائيلي، والاستثمارات التجارية، وثقة المستهلكين، حيث تشير تقديرات بنك إسرائيل إلى أن تكلفة الحرب ستصل إلى 67 مليار دولار أميركي، وحتى مع وجود حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 14.5 مليار دولار أميركي من الولايات المتحدة، فإن الموارد المالية لإسرائيل قد لا تكون كافية لتغطية هذه النفقات، ودفع الوضع المالي المتدهور وكالات التصنيف الائتماني الكبرى إلى خفض تصنيف الدولة، حيث خفضت وكالة فيتش التصنيف الائتماني لإسرائيل من A+ إلى A في أغسطس/ آب على أساس أن الزيادة في إنفاقها العسكري ساهمت في توسيع العجز المالي إلى 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024.

لقد مُنِيَ الكيان الصهيوني بسبب الحرب بضربات موجعة وبشهادة أهله، فاستنادًا إلى بيانات حكومية، فقد أغلقت نحو 60 ألف شركةٍ ومشروعٍ صغير ومتوسط أبوابها عام 2024، بزيادة 50% مقارنة بالسنوات السابقة، كما تدهورت صناعة السياحة الوافدة إلى إسرائيل بنسبة فاقت 70% خلال العام 2024، مقارنة بالعام 2023، فحسب بيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي، تراجعت السياحة الوافدة إلى 885 ألف سائح وزائر خلال الشهور الـ11 الأولى من 2024، وسط توقعات بوصولها إلى 952 ألف سائح خلال العام كله، إضافة إلى ذلك، تأثرت قطاعات أخرى مثل البناء والزراعة بشكل كبير، حيث أغلقت حوالي 700 إلى 750 شركة بناء وبنية تحتية العام الماضي، بزيادة تفوق 10%، مقارنة مع 2023، كما تأثر قطاع الزراعة بسبب القيود الأمنية على المناطق الحدودية ونقص العمالة.

الطريق نحو الركام السياسي والعسكري

تلك المبادئ والتركات الوظيفية لعقل الدولة الصهيونية علينا ألا ننساها بل نحرص على استذكارها دومًا، فالكيان الصهيوني هو العدو الأول للمنطقة، وهو مصدر جميع المآسي التي يعيشها ما كنا نسميه بالوطن العربي، هذا الوطن الممزق والمشتت الذي تناهشته الطائفية والعرقية والقبلية والمذهبية والعصبية والكيانات ما دون الدولة منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، كذلك ليس خافيًا علينا اليوم وبعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أن هذه الدولة المتمردة والمارقة وصورتها الذهنية المتعنجهة الوهمية، ولولا الدعم الأميركي السياسي والعسكري اللامتناهي ودعم بعض الدول الوظيفية في المنطقة لكانت الآن تحت أنقاض الركام السياسي والعسكري الذي تتبجح به.

لكم أن تتخيلوا أنه لو عاد الآباء المؤسسون للفكرة الصهيونية أمثال ناتان بيرنباوم وسيمخا سودفلد وثيودور هرتزل وإيدوند دي روتشيلد وبن غوريون وغولدا مائير وغيرهم ممن بذلوا الغالي والنفيس وعقدوا المؤتمرات وخاضوا الحروب ودبّروا المؤامرات والدسائس من أجل غرس فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين ليجدوا أحفادهم كنتنياهو ويوآف غالانت وبتسلئيل سموتريتش وبن غفير وموشيه غافني وغيرهم ممن يتخبطون سياسيًا وعسكريًا، قد جعلوا من إسرائيل أضحوكة يتندر عليها العالم؛ بسبب حماقاتهم التي أضاعت جذور الصهيونية أو في أقل تقدير أضعفتها وقيدتها، مع أننا ومن باب الإنصاف لا يمكننا الإنكار أن “الفطنة الإستراتيجية” للدولة الصهيونية في أيامها الأولى كانت مثيرة للإعجاب، خاصة عند مقارنتها بخصومها، أما اليوم فيمكن القول إن التآكل الإستراتيجي يتم تجاذبه إسرائيليًا ما بين يد حمقاء، وأخرى رعناء، وهو ما يجب على العرب فهمه واستيعابه.

حاولت إسرائيل أن تلعب دور القط المتوثب فأطلقت الحرب من عقالها ووسعت قوسها لكنها لم تحاول أن تجتهد قليلًا في دراسة بواطن الذهنية العسكرية لحركة حماس، ولم تدرك أن الحركة لها خصيصة متفردة كأي حركة مقاومة في العالم، وهي خطة النَفَس الطويل المُغمَّسة بالموت وحده، مما حدا بحماس إلى إدخال إسرائيل عنوة في صدمة السقوط الحر وكسر العنق.

هذه الصدمة كشفت تشظّي وتشرذم وتهشيم السردية الإسرائيلية وأعادتها رغم مكابراتها العنترية وهالاتها العسكرية المكذوبة إلى حجمها الطبيعي حيث القمقم الذي يجب أن تكون فيه، فأصل الصهيونية هو تجميع المبعثر وما جمعته الصهيونية خلال العقود المنصرمة قامت المقاومة ببعثرته وأعادته إلى أصله في عام واحد، وخاصة فيما يتعلق بأكذوبة “الجيش الذي لا يقهر”، ولنا أن نتأمل في ذلك اللطمات العسكرية الموجعة التي تلقتها أهم الألوية في الجيش الإسرائيلي، وهما من ألوية النخبة: غولاني، وناحال.

فقد اعترف الجيش الإسرائيلي بأن لواء غولاني وحده فقد 92 من ضباطه وجنوده، و67 ضابطًا وجنديًا هي تكلفة ما فقده لواء ناحال، كما أشار معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي إلى أن عدد مصابي الجيش الإسرائيلي خلال سنة من الحرب بلغ نحو 5 آلاف بينهم 695 جراحهم خطيرة، علاوة على ذلك فقد أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” بارتفاع عدد القتلى من العسكريين الإسرائيليين إلى 800 منذ بدء الحرب، كما أقرت بأن إسرائيل لم تواجه مثل هذا العدد الكبير من القتلى منذ أكثر من 51 عامًا.

وفي الضفة الأخرى من المشهد وفي جانبه السياسي الصراع الذي تدور رحاه بين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت في إشارة إلى اضطراب المشهد السياسي الإسرائيلي، والحال ذاته مع بن غفير زعيم حزب عوتسما يهوديت “العظمة اليهودية” اليميني المتطرف، الذي هدد بأنه وحزبه سيستقيلان من الكنيست إذا تمت المصادقة على اتفاق وقف إطلاق النار، وهذا ما حدث فعلًا في التاسع عشر من شهر يناير/ كانون الثاني 2025.

لم تقف فواجع نتنياهو عند هذا الحد، فبحسب قائد الدفاعات الجوية السابق الجنرال ران كوخاف – في حديث للقناة الـ12 الإسرائيلية – فإن الضربات الموجعة للمقاومة أدت إلى حبس أكثر من مليوني إسرائيلي في الملاجئ والغرف المحصنة في أكثر من 190 بلدة ومستوطنة ومدينة، وكذلك فإن الأرقام الرسمية تقول؛ إن قرابة نصف مليون ممن كانوا خارج إسرائيل قبل عملية طوفان الأقصى لم يعودوا حتى الآن، في حين غادر 375 ألفًا بعد الحرب.

سباق الأمتار الأخيرة.. عقل الدولة الصهيونية المنهك

نستطيع القول بعد خمسة عشر شهرًا من التضحيات البطولية للمقاومة وحاضنتها الشعبية، إنّ الأمور بخواتيمها، وبنظرة بانورامية بسيطة وبتفكير منطقي أبسط فإن إسرائيل خسرت حربها مع غزة وخرجت بخفَّي حنين، والأهداف التي وعدت وتوعدت بتحقيقها ذهبت أدراج الرياح؛ بدءًا من “القضاء على حركة حماس”، مرورًا “بعودة اللاجئين الإسرائيليين” إلى مغتصباتهم، وانتهاء بـ”اليوم التالي للحرب”.

هذا اليوم الذي صدّعوا رؤوس الخلق به واكتنفته الكثير من السيناريوهات والخطط المرسومة، قد يجد بعض المشككين أن الفاتورة كبيرة وباهظة على قطاع غزة، وهذا ما لا يمكننا إنكاره، ولكن المتفحص لعقلية الدولة لدى الكيان يعلم يقينًا أن فاتورته أكبر بكثير مما هو معلن، فالتابوهات التي كسرتها المقاومة خلال أكثر من عام تنبئ بعقلية فذة لدى المقاوم الفلسطيني، ونتاجه كان عالميًا.

فلأوّل مرة يزج بأسماء قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين في محكمة العدل الدولية، بل وصلت نفحات المقاومة إلى حد القول إن استمرار وجود دولة إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة غير قانوني، ولأول مرة كذلك يتم وصف هذا الكيان بـ “الدولة المنبوذة” عالميًا، كما أنه يكفي المقاومة فخرًا أن أعادت مركزية القضية الفلسطينية للعالم أجمع.

كما يكفيها فخرًا بأنها كشفت عن الوجه الحقيقي لهذا الكيان الشيطاني الهرائي والمتسربل بثوب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما كشفت زيف القانون الدولي والإنساني، وضعف المنظمات الدولية حين تتعلق الأمور بإسرائيل ووراءها الولايات المتحدة الأميركية، أيضًا ولأول مرة ومنذ زرع هذا الكيان عام 1948 يتوحد العالم من أجل القضية الفلسطينية وكأن حرب غزة حررت العالم من قبضة “معاداة السامية”  و”الهولوكوست”، و”أحباء صهيون”، وغيرها من التابوهات والخزعبلات الصهيونية.

ويبدو أن عقل الدولة الصهيونية من كثرة الضربات الموجعة لم يعد قادرًا على استيعاب أن المقاومة ألقمتهم حجرًا كبيرًا، والقناع قد سقط والكوميديا السوداء التي يتناولها على مسرح السياسة الدولية قد انفض جمهورها الشعبي.

ويبدو كذلك أن العالم كله قد أجمع على عدالة القضية الفلسطينية وبسالة المقاومة وإيمانها ورقيها واحترافيتها، والغائب الكبير في هذا المشهد هو عقل الدولة الصهيونية المتآكل إستراتيجيًا، الميتة خلاياه الذي تعثر وسقط منذ سماعه صفارة انطلاق السباق في هذه الحرب، ولن يصل إلى نهايته مطلقًا مهما حاول واجتهد، فقد انتصرت المقاومة وقطعت شريط النهاية، وحملت شارة البقاء والتجذر.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

عن شريف الشرايبي

Check Also

الاحتلال يعزز قواته بجنين ويبحث تخصيص كتيبة في طولكرم ونور شمس | أخبار

12/2/2025–|آخر تحديث: 12/2/202505:00 ص (توقيت مكة) أصيب عدد من الفلسطينيين، مساء الثلاثاء، جراء اعتداء قوات …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *